"بلال"... سينما الإيحاء

16 سبتمبر 2016

"بلال".. فيلم عن الحرية والعدالة والمساواة والشجاعة

+ الخط -
ليس فيلم الرسوم المتحرّكة العالمي (بلال) عن حياة بلال بن رباح وإسلامه. ليس معنياً بالحكاية الشهيرة للصحابيّ المعروف، ذات الشحنة الدرامية العالية، وهو الذي كان عبداً اعتنق الإسلام، فعرّضه "سيده" أمية بن خلف لتعذيبٍ فظيع، قبل أن يشتريه أبو بكر الصديق فيُعتقه، ثم يُحارب في معركة بدر مع قومه المسلمين، يَقتل فيها أميّة. وعند فتح مكّة، يصعد إلى أعلى الكعبة، ويصدح بالأذان، وهو "مؤذن الرسول" لقوّة صوته وجماله. هذه القصة حاضرةٌ في الفيلم، لكنها ليست أساسَه، ولا هي شاغله الأهم، بل ليس الإسلام أو "الرسالة" في الجزيرة العربية موضوعه. ولذلك، لم يُعجب في "بلال"، الأول من نوعه عربياً، والذي قرأنا أن إنجازه تكلّف 30 مليون دولار، مشاهدين أنه لا يأتي على نبوّة خاتم المرسلين وبعثته، ويخلو من أي إحالةٍ إلى ربّ العزة، سبحانه وتعالى، بل إنه، أيضاً، لا يوضح أن العذاب والجوْر اللذيْن تعرّض لهما بلال بن رباح كانا بسبب رفضه عبادة الأصنام، وتمسّكه بعبادة الواحد الأحد. لم يرُق لأولئك أن يغيب هذا كله عن فيلمٍ، قال صنّاعه إنه موجّه إلى الجمهور العالمي، فغرّد بعضهم في "تويتر" مطالبين بعدم عرضه (!). وذلك كله مع أن "بلال" يعرّف نفسه، في مفتتحه، بأنه "يستوحي" حكايته من قصةِ شخصيةٍ في التاريخ. والاستيحاء، ببساطة، لا يفرض على من يُبادرون إليه أن يقدّموا ما يريد أولئك أن يروه. 

قوة "بلال"، المتقن في إيقاعه العام، وحيوية الأداء فيه، وتتابع وقائعه، ماثلةٌ في صنعتِه أولاً، فيلماً يبني جاذبيته من بساطة فكرته، بل ومن أنه فيلم كرتون. وكذلك في الإيحاء الحاضر في "مرسلته"، وهذه قد تبدو وعظيةً، ومدرسيةً ربما. ولكن، لمَ لا؟ الأهم هو الحرارة الحادثة في الفيلم، بوصفه فناً أولاً وعاشراً، يتوفّر على جماليّات سينما حديثة، تُوازي بين المتخيّل والحقيقة التاريخية، بكيفيّةٍ موفقة. وإذ نال هذا العمل الكبير جائزة أفضل فيلمٍ ملهمٍ في مهرجان كان السينمائي، في دورة العام الحالي، فذلك يعني أن مانحيه هذه الجائزة (متى تقرّرت، ولم يسمع بها صاحب هذه السطور قبل فوز "بلال" بها؟) وقعوا على الجوهري فيه. وهو فيلمٌ لا تزيّد في الزّعم، هنا، أن إنتاجه، وبالصورة التي ظهر فيها، إنجازٌ عربي (وإسلامي؟) مهم، ليس فقط على مستوى الخطاب الإنساني الذي "استلهمه" من قصة بلال بن رباح المعروفة، بل أيضاً على صعيد فن السينما نفسه، إنْ بخصوص الإفادة القصوى من الإمكانات التقنيّة المتقدّمة التي يتيحها التطوّر المذهل في تهيئة رسومٍ متحرّكةٍ تُنسيك على الشاشة أنها رسومٌ متحرّكة، صنعتها الحواسيب، كما أرادتها مخيّلات فنانين طموحين، مغامرين، مشغولين بالإيحاء، وبالتعبير عن دواخل الشخصيات، والطاقة الشعورية فيها. وقد توفّق أهل هذا العمل في تقديم هذا كله، بشأن بلال بن رباح نفسه خصوصاً، بمصاحبة موسيقى تصويريةٍ لافتةٍ، كانت تذهب إلى الأحلام والأوجاع والرغبات والتوترات، وغير ذلك من أمواج النفس البشرية، ولا سيما أن إرادة الانتصار في الذات الإنسانية على العبودية وأغلالها، وعلى قيودها على الجسد والروح، هي المحتوى العميق في الفيلم، والشغل الأساسي فيه، وقد استطاعت هذه الموسيقى (أنجزها 120 عازفاً وعازفة)، وكذا أغنياتٌ فيه، في مشاهد غير قليلة في العمل، أن تنهض بكثيرٍ من التعبير عن هذا المحتوى، وعن تطلع الإنسان إلى الحرية، وإقامة الحق، وإعلاء قيم العدالة والمساواة والشجاعة.
غامر السعودي، أيمن جمال، عندما كتب سيناريو الفيلم بالتعاون مع ممثلٍ أميركي، وعندما ساعد الباكستاني خورام ألافي في إخراج الفيلم وتنفيذه المتقن، وعندما ساهم في الإنتاج الذي تصدّت له شركةٌ إماراتية سعودية. بدا "بلال" مختبر مواهب وطاقات عملٍ جماعي، ملحميٍّ ربما، فدخل إبداعُهم مشهدَ المعركة الحربية من إحدى عشرة دقيقة ونصف الدقيقة في قائمة غنيس للأرقام القياسية لأطول وأضخم معركة في أفلام "الإنيميشن". والأهم أنهم، جميعهم، صنعوا فرجةً مشوّقةً وحيويةً، وبمضمون فكري رفيع القيمة، في منتوجٍ من عالم الرسوم المتحرّكة التي صارت إغراءً لأهل السينما الكبار في العالم.. ولنا نحن النظّارة أيضاً.
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.