"باغندا"... صحافة وكرة قدم
كان غير معهودٍ ما أفضى به الأستاذ الجامعي والروائي التونسي، شكري المبخوت، إن شغفه بعالم الرياضة هو ما قاده إلى الشغف بالأدب، في لقاء معه بشأن روايته "باغندا" (دار التنوير، بيروت، 2016)، والتي يُؤتى، هنا، عليها، بمناسبة كأس العالم في قطر. يوضح إنه كان، في صباه، يقرأ صفحات الرياضة في الجرائد التونسية قبل غيرها. ويقع قارئ روايتِه الحسنة هذه على درايةٍ واسعةٍ لديه بعالم كرة القدم في بلده، وأنديتها ولاعبيها وإداراتها واتحاداتها، وكل ما يتّصل بها. وإذ تطوف في هذا كله، فإن من قلة الحصافة وصفُها روايةً عن كرة القدم في تونس وحسب، لأنها تراوغ في أمرها هذا، بنباهةٍ، عندما تجدها بمقدار ما تدخُل عميقا في عالم هذه اللعبة وناسها ومؤسّساتها، تدخل عميقا أيضا في فضاء تونس سياسيا واجتماعيا، منذ أواخر السبعينيات إلى أواخر الثمانيننات (تقريبا)، سيما أن الرواية موصولةٌ بعالم الصحافة في البلد، فالراوي، بضمير الأنا، في مساحات السرد العريضة، صحافي (نفسُه بطل رواية المبخوت الأولى "الطلياني")، يتقصّى في قضية اختفاء لاعب كرة قدمٍ تونسيٍّ موهوب، لقبه الجوهرة السوداء للون بشرته، اسمُه فتحي بركة وشهرته "باغندا". يُنجز تحقيقا استقصائيا بشأنها وينشرُه في الصحيفة التي يعمل فيها. وقد يأتي إلى خاطر قارئ الرواية أن هذه الشخصية حقيقية، لكنها متخيّلة بالمطلق. ومن مواضع ذكاء باديةٍ في هذا العمل لغته التي تحافظ على سمْت لغة الصحافة، من حيث التقريرية والمباشَرة والبساطة، والبعد عن الاستعاريات والمجازيات، وإنْ تحضُر أنفاسٌ موشّاةٌ بلغةٍ تؤشّر إلى ملكاتٍ في هذا الصحافي، تدلّ على تنوّع ثقافته (يحبّ الشعر)، وسعة درايته السياسية، وعلوّ لغته الأدبية إلى حد ما، وهو اليساري السابق، الحريص على الحقيقة، المنحاز إلى المهمّشين والفقراء وضحايا التسلط والفساد.
يحكي (أو يكتب؟) عبد الناصر العسلي (اسم الصحافي الراوي)، في المقطع الأخير من "باغندا"، إنه، بعد طلاقه زوجته، دار في ذهنه أن يهاجر، ليحفر مجرى حياته في "عالم الصحافة الحقيقية". ويضيف: "كنت أرى أن ما عندنا في تونس أقرب إلى الخربشات والمحاولات التي يقوم بها المبتدئون في دنيا التحرير، فيبدو الصحافي العادي كالأعمش في بيتٍ من العشوّ والعَميان". وفي الوسع أن يُعدّ الجهر بهذا الإحساس الذي يغشى "صاحبنا"، راوي الحكاية الغامضة الملتبسة عن لاعب كرة القدم باغندا واختفائه، بمثابة التغريدة الأخيرة للبجعة. إنه يودّع الحكاية، بعد أن بقّ البحصة، وقال كل شيء، عن فسادٍ فادحٍ في عالمي كرة القدم والصحافة معا، عن احتمالاتٍ ممكنةٍ بشأن سر اختفاء باغندا، إن كان اعتداءً عليه، أو اغتيالا من عصابة مراهنات، أو إخفاء، لننتهي بالرجل في مصحّة مجانين يحترق فيها.. إنه يعلن استحالة أن ينجح صحافي في تونس في إنجاز تحقيقٍ استقصائي، "لمثل هذا العمل محاذيرُ ومتطلباتٌ ووسائلُ وأساليبُ في التقصّي وإمكانيات مادية وبيئة إعلامية لم تكن متوفّرة ألبتة في صحافتنا وبلادنا، ولا تزال إلى اليوم غير متوفرة".
ربما يكون تزيّدا لو ذهب واحدُنا إلى أن شكري المبخوت كتب روايةً عن بنية فسادٍ مستحكمة في تونس، تكاد تطاول كل شيء، من قبيل ارتشاء مسؤولين ووزراء وسرقتهم من المال العام، وتطاول كذلك، بعيدا عن هذا الأمر المعهود، التحكيم في مباراة كرة قدم (!). وثمّة خيانة باغندا اللعبة عندما يتعمّد تضييع ضربة جزاء، وألاعيب الانتهازيين في الاتحاد التونسي لكرة القدم، ولشخصية رئيس الاتحاد مساحةٌ واسعةٌ في السرد والحكاية، رجل قليل التعليم وثروته مهولة. وثمّة ما يعرفه "سوق" لاعبي كرة القدم في تونس، والذي يحاول باغندا التحرّر منه بمغادرة البلاد، ما قد يعني احتمالا يفسّر اختفاءه الغريب الذي يرد، من إحدى تفسيراته أيضا، أن والد فتاةٍ أحبّها ربما دبّر اعتداءً عليه. وقولٌ كهذا، يضع الفساد في منزلة ثيمةٍ مركزيةٍ للرواية، ذات المجهود اللافت في بناء شبكة العلاقات المركّبة فيها، يغفل عن التضفير متعدّد المستويات في القصّ والحكي عن مشهدٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ عريضٍ في تونس. ما يجيز الذهاب إلى أن المبخوت كان محقّا لمّا قال عن "باغندا" إنها روايةٌ عن صراعٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ محتدم في طورٍ مضى في تونس.
... كأن في الوسع أن يستوحي كاتبٌ حاذق، ساردٌ خبير، من صراع المتبارين في الملعب المستطيل الأخضر على تسديد كرة القدم في المرمى الذي هنا أو المرمى الذي هناك، ما هو أبعدَ وأبعدَ من كل الركلات.