بادرة ومنوال تنمية جديد في تونس

12 نوفمبر 2020

شبان تونسيون يحتجون داخل منشأة نفطية في الكامور في تطاوين (16/7/2020/فرانس برس)

+ الخط -

بعد نيلها ثقة مجلس النواب في 2 سبتمبر/ أيلول الماضي، واجهت الحكومة التونسية، برئاسة هشام المشيشي، ترسانة تحدّيات شكَلت أزمات اقتصادية واجتماعية، انعكست سلبا على صورة الدولة ومجمل الفاعلين السياسيين من حكومة وبرلمان وأحزاب ومنظمات. والتزم المشيشي، في خطاب عرْضه برنامج حكومته لنيل الثقة، بأن حكومته ستعمل جادَة على إيجاد الحلول المناسبة لهذه الأزمات الموروثة، والتي لم تكن للحكومته الجديدة يد فيها، ولكنها في الوقت نفسه ملزمة بمجابهتها، تبعا لثقافة استمرارية الدولة ومقتضيات مؤسساتها وحفظا لاعتبارها وهيبتها.

وكانت أولوية الأولويات وكبرى الأزمات تلك التي تعلقت بملف الطاقة وإعادة الإنتاج في قطاع حيوي، هو قطاع البترول، الذي يوفر جانبا مهما من الموارد التي تحتاجها الدولة في ظرف استثنائي، اشتدت فيها الأزمة الاجتماعية أمام انحسار موارد الدولة الأساسية وتداعيات جائحة كورونا. وتوقع المتابعون أنه سيكون لحكومة المشيشي، في سعيها إلى النجاح في إعادة نسق الإنتاج في مادة البترول، كسب شعبي وسياسي هام، يعيد بسط يد الدولة على مصادر مواردها الحيوية وإدارتها. 

تفجر في تونس جدل في الفضاء العام ووسائل الإعلام بشأن هيبة الدولة، وضرورة تدخلها لفرض النظام

وتقع حقول النفط ومؤسسات إنتاجه في محافظة تطاوين في الجنوب الشرقي للبلاد التونسية، وأساسا في منطقة "الكامور"، وهي محافظة متاخمة للحدود الليبية، ولسكانها علاقات تاريخية اقتصادية وتجارية واجتماعية عريقة بالقطر الليبي، وهم يستفيدون من الإمكانات التي كانت تتيحها ليبيا. وقد أثر الوضع العام الذي تمر به الجارة القريبة سلبا على الوضع الاقتصادي بهذه الجهة، وخصوصا مناطقها الحدودية المباشرة، بسبب رجوع أعداد مهمة من العمالة التونسية المشتغلة سابقا في ليبيا، وتراجع حاد في فرص العمل، إثر غلق الحدود بين البلدين، وحملات مقاومة التهريب، وخصوصا مع تفشي فيروس كوفيد 19، وتوقف تنقل الأشخاص والتبادل التجاري النظامي عبر المعبر الحدودي "ذهيبة وازن". وقد أدى هذا الوضع إلى تراجع الدور الاقتصادي للجهة والمناطق الحدودية وإشعاعها في محيطيها، الإقليمي والوطني، بسبب تقلص "التجارة الموازية" التي كانت مورد رزق لآلاف المواطنين التونسيين.

فجّرت هذه الأسباب وغيرها حركة احتجاجية دارت أحداثها في منطقة الكامور البترولية في يونيو/ حزيران 2017، مطالبة بالتنمية والتشغيل والتوزيع العادل للثروات الطبيعية. وقد اعتصم شباب المنطقة في المسلك الفرعي للكامور الذي تعتمده شركات التنقيب لتزويد المحطات ونقل البترول نحو ميناء جرجيس البحري، وانضمت إليهم مجموعة من نشطاء المجتمع المدني المساندين للتحرّك. وقد دعمت عدة شخصيات وأحزاب هذا التحرّك، على غرار حزب حراك تونس الإرادة، وحركة النهضة وآفاق تونس والجبهة الشعبيَة.. وفي 24 يوليو/ تموز، أغلق المحتجَون محطة ضخَ البترول "كعملية تصعيديَة لتحرَكاتهم الاحتجاجية السلمية بعد عدم استجابة الحكومات السابقة لمطالبهم وعدم الإيفاء بوعودها". ما أدى إلى زيادة الاحتقان الشعبي، وعمّق الأزمة الاقتصادية العامة، خصوصا مع تفاقم العجز التجاري واختلال ميزان الدفوعات، وتفجر جدل في الفضاء العام ووسائل الإعلام بشأن هيبة الدولة، وضرورة تدخلها لفرض النظام وإعادة فتح محطة الضخ.

اتفاق يمكن اعتباره مؤسسا لنموذج جديد في حل الأزمات والمطالب الاجتماعية وإدارتها، والتعاطي مع الحراك الاجتماعي الاحتجاجي

أمام هذا الوضع، اعتمدت حكومة المشيشي مقاربة مختلفة عن الحكومات السابقة، تتمثل في إيفاد فريق حكومي للتفاوض مع المحتجين، يترأسه مستشار وزير الشؤون الاجتماعية، حيث انطلقت المفاوضات على المكان، مستفيدة من خبرة الوزير محمد الطرابلسي، النقابي والخبير في مجال الشغل والعلاقات المهنية، والذي عايش نشأة هذه الأزمة منذ 2017. وضم الفريق خبراء وجامعيين مختصين في التنمية، ومندوبين عن المنظمات الوطنية ونواب مجلس الشعب، لقيادة حوار استمر شهرا، أثمر اتفاقا شاملا أنهى هذه الأزمة، وأعاد تشغيل محطة الضخ، من أهم نقاطه ضمان تشغيل 1500 من أبناء الجهة في الشركات البترولية، وإحداث مواطن شغل بشركات البيئية، وتخصيص 80 مليون دينار لصندوق تنمية الجهة. 

وفي قراءة لرمزية هذا الاتفاق، يمكن اعتباره مؤسسا لنموذج جديد في حل الأزمات والمطالب الاجتماعية وإدارتها، والتعاطي مع الحراك الاجتماعي الاحتجاجي، عبر الحوار، وذلك بتحديد متطلبات كل جهة وأولوياتها، ضمن تصور غير مسقط ينبع من الجهة نفسها. وستعزز تجربة الكامور هذه حظوظ استنساخها، لا في الجهات التي تعيش على وقع إغلاق الإنتاج وتعطيله فحسب، بل في مختلف الجهات، إذ اعتبرها ملاحظون "تأسيسا لمسار تشاركي لتحديد الأولويات التنموية، وأدوار كل طرف فيها، الدولة والمجتمع المدني والمؤسسات والأفراد".

يمكن اعتبار اتفاق الكامور خطوة جيدة، أسهمت في تحقيق المعادلة التنموية بين الجهات الميسورة والجهات الأقل حظا

ما اكتسبته حكومة المشيشي من هذه التجربة امتلاكها مقاربة تهدف إلى إيجاد ثروة فعلية وتصور لكيفية توزيعها بشكل عادل. مقاربة تقوم على إعادة استثمار جزء من الثروة التي تنتجها الجهة وتدويره. ولا يقتصر ذلك على البترول والفوسفأت، بل على مختلف الموارد الطبيعية. وفي قراءة سياسية استراتيجية، يمكن اعتبار هذه التجربة تأسيسا للقطع مع منطق الدولة المركزية التي تحتكر الفضاء العام والثروة، وتحول بيروقراطيتها التقليدية دون تحقيق التنمية في الجهات المحرومة. وينتظر في هذا السياق، وهذا ما أعلنت عنه الحكومة، تعميم التجربة منوالا تنمويا جديدا مختلفا، ينبع من الحاجيات الأساسية لكل جهة وأولوياتها والفرص التي تزخر بها. وينتظر أن تبادر الحكومة باعتماد هذه المقاربة الحوارية لفض أزمات مماثلة كالفوسفات في الحوض المنجمي، وانسداد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المحافظات الداخلية في الوسط الغربي والشمال الغربي من البلاد. ويشار هنا إلى قرار رئيس الحكومة بتشكيل لجنة متابعة تسهر على تنفيذ الاتفاقيات والمشاريع المعطلة في بعض الجهات، بهدف إعادة جسور الثقة بين الدولة والمجتمع، وتأكيد مسار الديمقراطية الناشئة ومقتضياتها.

وفي المحصلة، ما فشلت فيه الدولة الوطنية قبل الثورة وبعدها، والمتمثل في كسر هذه الحلقة المفرغة بين سواحل البلاد ودواخلها، وذلك بإيجاد محرّكات ضخمة للنمو وللتنمية، تحقيقا للعدالة الجهوية وتعدّد الأقطاب التنموية، يمكن اعتبار اتفاق الكامور خطوة جيدة، أسهمت في تحقيق المعادلة التنموية بين الجهات الميسورة والجهات الأقل حظا، وهي خطوةٌ تحسب لحكومة المشيشي الفتية، في ظرف تحتاج فيه تونس لتصورات جديدة في إدارة الأزمات وفي تحقيق التنمية، على حد سواء.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي