انقلاب عسكري جديد
استبشر بعض الساكنين في البلدان العربية بربيع ديمقراطي يحمل وعوداً لم يبالغوا في تصوّرها، إذ إنّها لا تتجاوز الحدّ الأدنى من تحقيق المطالب الأساسية للجنس البشري، بدءاً من حرية التعبير، عبوراً من حرية التنظيم والتجمّع، كما المشاركة السياسية في جو من التعددية المقبولة، وصولاً إلى أن يُنتج المزج بين هذا كله حفظاً للكرامة الإنسانية.
كانت تونس البداية، ولتتدحرج بعدها رؤوس الاستبداد السياسي التي اشرأبّت حتى كادت تصل إلى حدود السماء. ولكن سرعان ما تخلّف كثيرون ممن اعتبرتهم الأدبيات السياسية القديمة كحملة للثورة ومؤطّرين لها أو على الأقل داعمين نظريين في جنباتها. وكانت البداية أيضاً من تونس، فتحجّج بعضهم بعدم وضوح الرؤية. والرؤية التي كانوا يتحدّثون عنها تتعلق برؤيتهم وتصوّرهم واختياراتهم وانتماءاتهم وقناعاتهم، دوناً عن بقية المكونات الاجتماعية والثقافية والسياسية، فإن لم يأت الصحن جاهزاً ليس للأكل فحسب، بل للهضم حتى، فهم ليسوا قادرين ولا راغبين في مساندة السير على الطريق الجديد غير المعبّد، والذي يحتاج إلى جهود الجميع وعملهم، ليصبح طريقاً مناسباً لغد أقل ظلماً واستبداداً من سابقه. الحجج التي أسرف هذا البعض في تصوّرها وفي نشرها ساهمت في إبطاء انهماك البعض الآخر في تأييد التغيير وتراجعه في بداية الطريق أو بعد البداية بقليل، وبالتالي انكفائه بانتظار المجهول.
في تونس، وقع انقلابٌ على الشرعية من الشعبوية والغوغائية المسنودة من النظام القديم، ومن قوى إقليمية أسّست للثورات المضادّة ودعمتها
كما ساهم في التشجيع على انكفاء بعضهم، تصدّر المشهد أو بعضه فئات سياسية بامتياز كانت متنكّرة بلبوسٍ ديني ناسبها قلباً وقالباً، واستغلّته مراراً في الماضي، وكادت أن تستهلكه بحذر. هذا اللبوس الديني، والذي جذب مجتمعاً محافظاً ملتزماً ومقتنعاً بعدالةٍ إلهية، بعد أن أخفقت عدالة البشر، استطاع أن يتخلّى عن مبادئه الأخلاقية والروحية في أول مناورةٍ سياسيةٍ ألزمته بالتحالف مع الشيطان، للصعود إلى منصّة المشهد ومنع الآخرين من التقدّم. وبالتالي، تخلّى هذا المكوّن عن حلفاء مبدئيين لم ينتموا يوماً إلى مدرسته الفكرية، ولكن التزامهم الديمقراطي الأصيل دفعهم دائماً إلى الدفاع عن حق هذا المكون الديني في الوجود والنشاط على الساحة السياسية. وقد وصل بهم الأمر إلى الاقتناع بإمكانية التحالف أو التوافق في الحدود الدنيا مع أفرادٍ أو جماعاتٍ من هذا المكوّن للوصول إلى إطلاق عملية تغيير شاملة ومشتركة، مبنية على تفاهماتٍ لا تسمح بانكفاء الأمل التحرّري.
استهلكت بعض القوى الدينية سمعتها الأخلاقية التي أسّست لها خلال نضالاتها السابقة، إذ لم يكن لها أن تعمل بحرية، لكي تتحالف مرّة مع ممثلي النظام السابق، ومرّة أخرى مع ناهبي قوت الشعب من النخب الاقتصادية المتجدّدة. وفي المقابل، فقد ابتعدت شرّ ابتعادٍ عن الحليف الطبيعي الذي آمن بحقوقها، ودافع عن حرّياتها وتحالف معها سياسياً يوماً، بهدف إيجاد أرضية مشتركة لبناء وطني يدمج جهود جميع القوى الديمقراطية وإمكاناتها. وبالتالي، استهلكت هذه القوى، ذات اللبوس الديني، رموزاً وطنيةً كثيرة لترمي بها على قارعة طريق الطموح الجارف بالوصول الى الهيمنة على المشهد السياسي في أقل تقدير.
في تونس، وقع انقلابٌ على الشرعية من الشعبوية والغوغائية المسنودة من النظام القديم، ومن قوى إقليمية أسّست للثورات المضادّة ودعمتها. ومع تحميل الانقلابيين المسؤولية، فإنّ العقل السياسي المتّزن يجب أن يجد مسؤولية أيضاً لمن فشل خلال سنواتٍ عشر من بناء مشروع سياسي تغييري، يدمج كلّ القوى الديمقراطية من دون إقصاء وتفرّد. وقد تكرّر الأمر في مصر، وإن كانت فرصة الحكم المنتخب الناجم عن الثورة أقلّ زمنياً، وكان الانقلاب أشرس عملياً معتمداً القوة والقمع والترهيب.
اليوم دور السودان الذي عزّزت ثورته الأمل، إلّا أنّ الوثوق بالعسكر أودى بها إلى الفشل
التجربة نفسها امتدّت، لكن بشكل دموي، إلى سورية، حيث انكفأ بعضهم خوفاً أو تردّداً أو عقيدةً، وتقدّمت الصفوف، بعد الانطلاقة المشتركة، قوى ذات لبوس ديني، سرعان ما سعت إلى تحويل المواجهة من بعدها الوطني الديمقراطي إلى بعد ديني شامل. وكما في المشهدين، التونسي والمصري، لا يمكن تحميل المسؤولية كاملةً إلى من تصدّر، بل أيضاً يتحمّل المسؤولية، وربما على الدرجة نفسها، كلّ من ابتعد واكتفى بالاحتجاج اللفظي، أو بالإيماءات التي صارت لها مدارس أدبية، فما أسهل أن تبرّر انهزامك ببروز تيارٍ لا تميل إليه وصولاً إلى شيطنته، وبالتالي تحميله كل المآسي والخيبات.
الثورات المضادّة المدعومة إقليمياً بوقاحةٍ قلّ نظيرها في تاريخ العلاقات الدولية، عدا التدخل العسكري المباشر لتغيير الأنظمة، لم تدفع الدول الغربية التي تتبنّى مبادئ الديمقراطية وقيم العدالة في سياساتها الوطنية إلى التنديد أو حتى التحفّظ الدبلوماسي، فالانقلابيون صاروا سادة العارفين بالسردية التي تجذب الغرب إلى الاقتناع بحججهم. هذه السردية قائمةٌ على مثلث من المصالح الغربية الأساسية: الحدّ من موجات الهجرة واللجوء، محاربة الإرهاب، الاستقرار الأمني. وبالتالي، يمكن لحكم العسكر أن يَعِدَ الصامتين عن الحق في الغرب بأنه خير حليف لهم في محاربة الإرهاب ووقف الهجرة غير الشرعية وتحقيق الأمن. وعلى الرغم من قدرة المستبدّ على الالتزام بهذا الوعد في المدى القريب، إلا أن وجوده نفسه، كما ممارساته، ستؤدّي إلى تفاقم الهجرة واللجوء وفقدان الأمن والأمان وانعدام الاستقرار. اليوم هو دور السودان الذي كانت ثورته قد عزّزت الأمل، إلّا أنّ الوثوق بالعسكر أودى بها إلى الفشل.