انقلابيو السودان وخطورة تكريس الأمر الواقع

11 فبراير 2022
+ الخط -

لم يتأخّر المجتمع الدولي، بوجهه الرسمي عبر مجلس الأمن، ثلاثة أشهر لإدانة انقلاب الفريق أول عبد الفتاح البرهان في السودان فحسب، بل دفع بمبادراتٍ ومبعوثين لتلمُّس عفو العسكر ورِقَّة قلبهم، والتوسّط لديهم من أجل العودة إلى مسار الفترة الانتقالية الموؤودة، بينما هم يمارسون هواية قتل المتظاهرين يومياً في شوارع البلاد، وعلى مرأى من عدسات التلفزة والمراقبين الدوليين. وإذ يشير سلوك العسكر، منذ انقلابهم على الرئيس المخلوع عمر البشير، ومن ثم على شركائهم في مجلس الحكم الانتقالي، إلى أنهم ماضون في عملية الاستفراد بالسلطة، يتبيّن أن تفاوضهم مع المدنيين وإشراكهم في الحكم قبل الانقلاب، ثم تلقي مبادرات الحلول بعده، ليست سوى تنويعٍ على مقامات تمرير الوقت، لتكريس الأمر الواقع ريثما يتقبل المجتمع الدولي وجوههم واجهة للسودان. ويبدو أن لديهم استراتيجية لكسب الشرعية مع مضي الوقت، وقد عمل مستشارون من دول خليجية ومن مصر، وحتى من دولة الاحتلال الإسرائيلي وغيرها، على تزويدهم بها، وسهروا على حسن تنفيذهم إياها، بانتظار أن يتعب السودانيون، وينسحبون من مواقع الاحتجاج.

يمكن الاستناد على نية العسكر الحقيقية في منع المدنيين من تسلم السلطة من أجل الوصول إلى أفضل قراءة للوضع الحالي في السودان، وللأزمة التي أحدثها الانقلاب الذي نفذه المجلس العسكري، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على المدنيين، وكذلك استقبالهم المبعوثين الدوليين، وتسلمهم مبادرات الوساطة لحل الأزمة في البلاد. هذه النية المبيّتة التي يحاولون إخفاءها في ابتساماتٍ صفراء يضطرّون لرسمها على وجوههم لدى استقبال الوسطاء، فلم يكن يفصل المدنيين عن تسلم قيادة الفترة الانتقالية تنفيذاً لما جاء في الوثيقة الدستورية المتفق عليها بين المجلس العسكري الانتقالي وممثلين عن قوى ثورة ديسمبر 2018، سوى شهرٍ، وإذ بالعسكر ينقلبون على الاتفاق ويوقفون العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية، ويزجّون أعضاء من المجلس الانتقالي ورئيس مجلس الوزراء، عبد الله حمدوك، في السجن، في رسالةٍ منهم أنهم لا يقبلون شريكاً لهم في الحكم.

وعلى الرغم من أن الانقلاب موصوفٌ وواضحٌ، وليس في حاجة إلى تشريحٍ وتوضيح، وعلى الرغم من الدماء التي يتسبب العسكر في إهراقها في الشوارع، يستغرب المراقب للوضع في السودان من عدد المبعوثين الدوليين الذين يصلون إلى الخرطوم للقاء البرهان ومساعده، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وكذلك من المبادرات التي يتلقونها، ومنها مبادرة موفد الأمم المتحدة الخاص في الخرطوم، فولكر بيرثس، للتوسّط عبر لقاءات ثنائية مع أطراف الأزمة لحلها. بينما أسباب الأزمة واضحة، وقد وضع العسكر البلاد في أتونها، حين انقلبوا على مسار العملية الانتقالية التي كانت كفيلةً بإيصال السودان إلى بر أمانٍ ينفتح فيه على المجتمع الدولي، ويدخل مرحلة إعادة بناء اقتصاده وترميم جراحه لكي يصبح دولة طبيعية.

لم يكن اعتقال رئيس الوزراء استهدافاً شخصياً له بقدر ما كان استهدافاً لرمزية الانتقال الديمقراطي الذي مثّله

وفي هذا السياق، وعلى الرغم من التدخلات من أجل إيجاد حلولٍ لما يعدّونها أزمة، هنالك قوى وأحزاب سودانية كثيرة لا تعترف بأن ما يجري في السودان أزمة تمر بها البلاد ويجب حلها، أو أن على المجتمع الدولي المساعدة في حلها. إنها في نظرهم عملية استكمال لثورة ديسمبر، والتي يعتبرون أن ما حدث، منذ انقلاب العسكر على البشير، في 11 أبريل/ نيسان 2019، وقبول بعض الأطراف من قوى الثورة في التشارك مع العسكر في الحكم، هو حياد عنها وعن هدفها في الوصول إلى دولة مدنية. وفي سياق آخر، أقل راديكالية، يرى آخرون أن الانقلاب الأخير هو انقلاب على الشراكة التي كرّستها الوثيقة الدستورية، فهل يمكن، في هذه الحالة، التفاوض معهم من أجل العودة إلى شراكة نقضوها، وأبدوا كل أشكال العداء لرموز الانتقال الديمقراطي؟ وفي هذا السياق، لم يكن اعتقال رئيس الوزراء استهدافاً شخصياً له بقدر ما كان استهدافاً لرمزية الانتقال الديمقراطي الذي مثّله، وهو الذي سار بالبلاد نحو التعافي الاقتصادي، حين قاد حملةً دولية لإعادة السودان إلى المجتمع الدولي، بعد نجاحه في إقناع الغرب بشطب البلاد عن قائمة الدول راعية الإرهاب، وبعدما نجح في الحصول على موافقة الدائنين لشطب ديونه ومدِّه بالمساعدات، بينما يغامر العسكر في القضاء على كل ما تحقق، ويضعون البلاد على مسار العودة إلى العزلة التي كانت عليها خلال حكم البشير.

لقد تحوّل رموز الانقلاب، بسبب كل ما تقدّم، وبسبب سياسة القمع والقتل التي انتهجوها، سواء خلال قمع المظاهرات التي خرجت للمطالبة بحكم مدني وقمع المحتجين والتسبّب بمجزرة أمام مقر القيادة العامة للقوات المحتلة (يونيو/ حزيران 2019)، وصولاً إلى المجازر التي يقترفونها يومياً بحق المتظاهرين المشاركين في المليونيات الاحتجاجية. لقد تحوّلوا إلى متهمين يمكن أن يقدّموا للمحاكمة أمام المحاكم الدولية بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وهم الذين لدى بعضهم سجل إجرامي على خلفية ضلوعهم في حرب دارفور ومجازرها. لذلك والحالة هذه، لا يرى الثوار العسكرَ طرفاً يمكن التفاوض معه، بل رفعوا لاءاتهم الثلاث التي يكررونها يومياً بوجههم: "لا تفاوض، لا شراكة، لا مساومة"، لأن التفاوض يعني الاعتراف بهم وبحكمهم.

الخطورة في تسليم المجتمع الدولي بالأمر الواقع المتمثل بحكم المجلس العسكري مع مضي الأيام

إذا كانت استقالة حمدوك تعدُّ رسالةً إلى الغرب تساعده للتوصل إلى القناعة بعدم شرعية المجلس العسكري وقيادته السودان، فإن الأمر يحتاج من الغرب، ومن داعمي الانقلاب في المنطقة، إعادة النظر بتواصلهم مع هذا المجلس لأنه سيعدّ ذلك بمثابة تهاون تجاه استيلائه على السلطة بالقوة. وبالتالي مقدّمة لمسامحته تمهيداً للاعتراف بشرعيته. وليس خافياً على أحد أن المجلس يمارس سياسة الإنكار والتعنت (الاستراتيجي)، ويدفع بمواليه، وموالي النظام القديم الذين أعاد تمكينهم وتحشيدهم، إلى الشوارع في مسيرات تأييدٍ له ليكرّس هذه الصورة لدى الخارج، على الرغم من علمه بتفوّق عدد معارضيه ونسبتهم على نسبة مؤيديه. ويفعل ذلك بعد أن حاول الإيهام بأن الدافع لانقلابه أن المدنيين منقسمون ولا يتوقفون عن التصارع، متناسياً أن ذلك الانقسام، أو التعدّد، من أساسيات الممارسة الديمقراطية.

ويبقى الخوف والخطورة في تسليم المجتمع الدولي بالأمر الواقع المتمثل بحكم المجلس العسكري مع مضي الأيام، وتجاهُل الحركة الديمقراطية وتضحياتها، كون الغرب عادة ما يرتاح في التعامل مع الأقوى الذي يفرض نفسه على الأرض، مهما كان ثمن ذلك، ومهما كانت الآلام التي يتسبب بها.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.