الوهم الزجاجي
شارل السادس ملك فرنسي حكم فرنسا بين عامي 1380 و1422، وكان يحمل ألقابا عدة، منها الملك المحبوب (لأنه كان عادلا وعقلانيا في بداية حكمه) والملك المجنون (لأنه فجأة بدأ بقتل أقرب المقرّبين إليه من حرّاسه وأصدقائه وأشقائه). غير أن أغرب ألقابه الملك الزجاجي، ذلك أن جنونه تطوّر يوما بعد يوم، حتى بدأ يظن أن جسمه مصنوع من الزجاج، وكان يطلب من حاشيته عدم الاقتراب منه، لكي لا ينكسر، كما أنه طلب من خياطيه أن يصنعوا له ملابس حديدية، كي تحمي جسده الزجاجي من التحطّم والكسر. وكان يعتقد أنه، بسبب جسده الزجاجي، يتميز عن الآخرين بميزة نادرة، تجعله يمتنع عن الاقتراب منهم، ليس فقط خوفا من التحطّم والكسر، بل أيضا خوفا من التشبه به. ويقال إن الجنون بلغ عنده مداه، فصار يرفض الاستحمام خوفا من أن يكسر الماء جسده الزجاجي الذي امتلأ بالقروح والالتهابات، نتيجة تراكم الأوساخ عليه واحتكاك الحديد الذي يرتديه بجسده.
سمّيت حالة شارل السادس في علم النفس بوهم الزجاج، وهو أحد أكثر الاضطرابات النفسية غرابة، واشتهر في العصور الوسطى مع اكتشاف الزجاج الشفاف بالغ الجمال. ويتحدّث التاريخ عن اضطرابات مشابهة لمن يعملون في مهنة الخزف (وهم الخزف). وفي الحالتين: وهم الزجاج ووهم الخزف. يعتقد المريض أنه مستهدفٌ بسبب تميزه واختلاف جسده عن أجساد الآخرين، ما يجعله يتعالى عليهم، ويضع حاجزا صادّا بينه وبينهم يحميه من أذيتهم كما يتوهم، ويبقيه متميزا عنهم.
تشبه حالة الملك شارل السادس ووهمه الزجاجي حالة شعوبٍ كثيرة هذه الأيام بالتحديد، حيث يتابع الملايين فاعليات كأس العالم في قطر بكل ما أثارته وتثيره من إشكالات سياسية ودينية وعنصرية وأخلاقية، إلى حد أن دورة هذا المونديال سوف تبقى إلى الأبد علامة فارقة على ما شهدته من حوادث وأحداث وإشكالات ونقاشات لا علاقة لها بكرة القدم على الإطلاق بوصفها الرياضة الشعبية الأولى في كل العالم.
مفهومٌ جدا أن يكون لأحدنا موقفه السياسي والأخلاقي من هده الدولة أو ذاك النظام. ومن المنطق أن يكون هذا الموقف مبنيا على معطيات محدّدة يمكن مناقشتها... السياسة، مبدئيا، لا تربطها بالأخلاق أية صلة قرابة، والدول وأنظمتها ليست جمعيات خيرية، للدول والأنظمة مصالح، والسياسة فن المصالح، وعلاقتنا، شعوبا وأفرادا، بالسياسة وتداعياتها إيديولوجية. هذه من البديهيات، مثل بديهية أن النظام الذي يحترم شعبه ويؤمن له الرخاء والعيش الكريم، ويستثمر في أبنائه وبناته في التعليم العالي والخبرات وتشكيل كوادر وطنية قادرة على وضع رؤية وطنية للمستقبل، سوف يفرض عليك احترامه إن كنت تتمتع ببعض الموضوعية.
لكن ما القول في المصابين باضطراب وهم الزجاج، الذين يظنون أنهم مميزون ومختلفون عن الآخرين، لمجرّد أن بلادهم شهدت حضارات قديمة أو حديثة، فيتعالون على الآخرين، ويعيّرون المجتمعات والدول إما بأن لا تاريخ لها أو بأنها مجتمعات منحلة، كونها لا تتفق مع ايديولوجيات يعتنقونها؟ ماذا بخصوص هؤلاء الذين يلبسهم وهم التحضّر، ويتعالون على أهل البلاد التي تتقدّم أشواطا بعيدة في المستقبل، بينما هم يعيشون على أمجاد ماض لا علاقة لهم به، وحاضرهم ممعنٌ في الخراب والفساد والحروب؟ وماذا بخصوص الذين يرون انهم المميزون بالأخلاق بسبب دينهم، بينما باقي الشعوب منحلة ومعدومة الأخلاق؟ أليس مدهشا التنمّر المتبادل حاليا بسبب كأس العالم؟ خصوصا التنمّر والاستعلاء الدي تمارسه النخب في العالمين، العربي والغربي، على حد سواء؟
لكنه وهم الزجاج الذي يجعل من نخب شعبٍ ما تتعالى على شعوب أخرى بذريعة التفوق والقدم الحضاري، بينما الحقيقة أن جسد العالم كله مليء بالتقرّحات والأمراض والالتهابات، والتي لا بد لها من علاج يبدأ بالتخلص من كل الأوهام عن التفوّق والتميز والاستثنائية، والتعامل بموضوعية مع الذات ومع الآخرين، والتعامل مع الشعوب بوصفها معزولةً عن سياسات حكامها، والتعامل مع الأوطان بوصفها أوطانا ومجتمعات لشعوب مختلفة، ولكل شعب ثقافته وعاداته، ولا تشكل سياسة حكامه صورة عنه.
في نهاية حياته، أصيب الملك الفرنسي، شارل السادس، بالخرف وفقدان الذاكرة، حتى نسي كل شيء، بما في ذلك فرنسا وأنه ملك عليها، وهو ما شخّصه الأطباء وقتها نتيجة طبيعية لاضطراب وهم الزجاج؛ ربما على البشرية أن تصاب بفقدان ذاكرة كامل كي تنسى أوهامها الزجاجية الحالية.