الهجرة غير النظامية بين تونس والاتحاد الأوروبي ومقاربة جديدة
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
أثارت قضية الهجرة السرّية أو غير النظامية بين تونس والاتحاد الأوروبي جدلا ونقاشات كثيرة، وكذلك بشأن طبيعة العلاقات الدولية ومكانة الإنسان في صلب هذه العلاقات، وأبرزت ضرورة تأسيس استراتيجيات دولية بشان الهجرة، تضمن مصالح الدول وتحمي حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية وتحفظ كرامته وإنسانيته. تستوجب هذه المعادلة الصعبة، التي تتشابك فيها الرؤى والمواقف والسياسات، التجرّد من الاعتبارات الأيديولوجية والعنصرية والبراغماتية الآنيّة نحو بناء شراكاتٍ دوليةٍ عادلةٍ ومنصفة، ونحو تكريس حرّية التنقل التي يضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول 1948.
تعدّ اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وتونس المبرمة سنة 1995 منطلقا للتأسيس لعلاقات شاملة ومتعدّدة الأبعاد بين الطرفين، ومتجاوزة بذلك النظرة الضيّقة التي ارتكزت عليها اتفاقية التعاون الاقتصادي الموقعة سنة 1976، والتي تناولت البعد الاقتصادي، وتغاضت عن غيرها من مجالات التعاون والشراكة المتعدّدة، وأقامت علاقاتٍ غير متكافئة بين الطرفين، تبيّن قصورها وهشاشتها في معالجة القضايا الدولية المطروحة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط، لذلك طرحت الشراكة الأورومتوسطية في برشلونة بين الاتحاد الأوروبي وبلدان المغرب العربي منذ 1995 بديلا للاتفاقيات السابقة، وهي شراكة تهدف، مبدئيا، إلى أن تكون شاملة ومتوازنة تتناول المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقاقية والسياسية، وترمي إلى بناء منطقة التبادل الحرّ، وتتأسّس على حرية تنقل البضائع والخدمات، وإزالة الحواجز الديوانية. ولكن ينتفي فيها الإقرار بحرية تنقل الأشخاص التي تعدّ من أهم دعائم بناء السوق الأوروبية المشتركة، حيث ارتكزت هذه السوق على الإقرار بضمان أربع حريات، تنقل البضائع والأشخاص والخدمات ورؤوس الأموال، بالإضافة إلى حرّية المنافسة بين الفاعلين الاقتصاديين من مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي. وتهدف هذه الشراكة الأوروبية التونسية إلى معالجة قضية الهجرة غير الشرعية بين البلاد التونسية والاتحاد الأوروبي، عبر تبنّي مقاربة جديدة متعدّدة الأبعاد تقوم على تصوّرات سياسية واجتماعية وثقافية مستجدّة.
تسارعت وتيرة المفاوضات والزيارات لمسؤولين كبار في الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي إلى البلاد التونسية
ومنذ ذلك التاريخ، لم تبرم اتفاقات شراكة بمثل هذا الطموح والتجديد والشمولية، رغم تغيّر المعطيات الدولية المتعلقة بالهجرة وبالمخاطر المُحدقة بالإنسان المهاجر. ورغم سعي الاتحاد الأوروبي إلى التأسيس لإرساء علاقات شراكة متميّزة مع شركائها في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، ورغم الدعوات المتكرّرة إلى تقييم جدوى اتفاقيات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي ودول الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، باعتبار أنها لم تكن منصفة للطرف التونسي، بقدر ما أثمرت امتيازاتٍ ومنافع للطرف الأوروبي، فاقتصاد البلاد التونسية لم يكن مؤهّلا للانضمام الى شراكة متكافئة الحقوق والامتيازات والالتزامات بين طرفين متفاوتين في النمو تفاوتا كبيرا، وكانت لإقامة منطقة للتبادل الحرّ نتائج وخيمة على التجارة البينية خصوصا، والاقتصاد التونسي عموما، لم يجر تناولها بعمق وندّية وفتح مفاوضات ونقاش عام في شأنها مع الاتحاد الأوروبي.
وتعدّ زيارة رئيسة مجلس الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إلى تونس، في مفتتح شهر يونيو/ جزيران الحالي، مؤشّرا مهما لتطور العلاقات الإيطالية التونسية بشأن موضوع الهجرة غير النظامية وسبل التعاون بين البلدين، لا سيما أن إيطاليا برزت، أخيرا، مدافعا مستميتا عن مصالح الدولة التونسية، وعن تعميق الشراكة والدعم لها، سواء كان ذلك صلب الاتحاد الأوروبي أو في علاقة مع صندوق النقد الدولي، لحثّه على استكمال المفاوضات مع تونس، ومنحها القرض الذي طال انتظاره. وتباينت وجهات النظر والتعليقات والتبريرات بشأن هذا التعاطف الغريب، وهذا التناغم المثير بين رئيسة حكومة إيطالية يمينية ودولة تعدّ شواطئها أكبر منفذ للعبور من القارّة الأفريقية إلى القارّة الأوروبية باعتماد أساليب غير شرعية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تسارعت وتيرة المفاوضات والزيارات لمسؤولين كبار في الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي إلى البلاد التونسية، فمن زيارة منفردة لرئيسة الوزراء الإيطالية إلى زيارات متعدّدة الأطراف، بداية من يوم 11 يونيو/ حزيران الحالي، شملت رئيس الحكومة الهولندية ورئيسة المفوضية الأوروبية صحبة المسؤولة الإيطالية المذكورة، بالإضافة الى مكالمة هاتفية تاليا بين الرئيس التونسي قيس سعيّد ورئيس المجلس الأوروبي. وجديد هذه اللقاءات زيارة سعيّد إلى باريس تلبية لدعوة من الرئيس الفرنسي ماكرون، للمشاركة في "قمّة باريس من أجل عقد مالي جديد". ولهذه اللقاءات المتقاربة والمتواترة زمنيا عدة دلالات:
بناء سياسات أوروبية جديدة تجاه القارّة الأفريقية يمر حتما عبر تونس وعبر استمالة المسؤولين القائمين على سياستها الخارجية
أولا، الإقرار بالموقع المتميز للبلاد التونسية، وبمكانتها شريكا استراتيجيا وبوابة للقارّة الأفريقية، بحيث إن بناء سياسات أوروبية جديدة تجاه القارّة الأفريقية يمر حتما عبر تونس وعبر استمالة المسؤولين القائمين على سياستها الخارجية، والمساهمة في إيجاد مناخ من الأمن والاستقرار داخلها، ومتناغم مع الشريك الأوروبي.
ثانيا، الإعلان الضمني عن القبول والرضا اللذيْن يحظى بهما الرئيس التونسي قيس سعيّد لدى الاتحاد الأوروبي، ومباركة السياسات التي ينتهجها داخليا وخارجيا، رغم ما تثيره من تحفّظات وانتقادات معلنة من بعض الشركاء والمؤسسات الأوروبية، تحوم بمعظمها حول التضييقات التي تشهدها الحرّيات والانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من دعوات معارضي قيس سعيّد داخليا للاستنجاد بالخارج، قصد التنديد بالانحراف بالمسار الديمقراطي، وبجنوح النظام السياسي التونسي نحو الديكتاتورية والتسلّط والانفراد بالرأي، إذ فشلت هذه الدعوات في ثني الاتحاد الأوروبي عن التعاون مع تونس، ومدّ يد المساعدة لها.
ثالثا، الإقرار الضمني من الشركاء الأوروبيين بأن حل مشكل الهجرة غير النظامية، وفقا للمقاربات التقليدية القائمة على الردع والزجر والسياسات البوليسية التضييقية، أضحى في غير محله، ويستدعي مراجعات جوهرية لإرساء شراكةٍ منصفةٍ وعادلة بين الطرفين، ومن أجل الانفتاح على مقارباتٍ أكثر إنسانيةً وحفظا لحقوق الشعوب المفقرة والمهجّرة قسرا من أوطانها.
رابعا، الوعي لدى السلطات التونسية بضرورة فرض وجهة نظرها والدفاع عن مصالحها المشروعة وتبنّي مقاربة براغماتية ومتوازنة في علاقتها بالشريك الأوروبي، والسعي إلى التفاوض بندّية معه، والنأي بنفسها عن التعامل مع الطرف الأوروبي بوصفها مجرّد حارس لحدودها وخزانا للهجرة غير الشرعية التي يجرى وأدها، إما على التراب التونسي أو على الحدود للمجتازين خلسة. وقد عبر الرئيس قيس سعيّد بجرأة غير معهودة من المسؤولين التونسيين عن أن تونس لن تلعب دور الحارس للحدود الأوروبية، ولن تكون حارسة إلا لحدودها، وأنها لا تقبل مطلقا بتوطين المهاجرين غير الشرعيين على ترابها. كما أكّد موقفه بضرورة اعتماد مقاربة جديدة بخصوص ظاهرة الهجرة غير النظامية، تقوم على القضاء على الأسباب، لا على محاولة معالجة النتائج، ودعا إلى تكاتف الجهود لوضع حدّ لهذه الظاهرة غير الطبيعية وغير الإنسانية. وتواترت هذه التصريحات، منذ زيارته صفاقس (جنوب) في 10 يونيو/ حزيران الحالي، وهي المدينة التي أضحت بؤرة للهجرة غير النظامية.
تحاول تونس منفردة، وفي غياب شركاء من الاتحادين المغاربي والأفريقي، اغتنام الفرص وكبح لجام التسلط الأوروبي بشأن الهجرة غير النظامية
ويعدّ تفاقم الهجرة السرّية من بلدان الساحل وصحراء القارّة الأفريقية إلى البلاد التونسية، والمضي نحو تحويل التراب التونسي من أرضٍ للعبور إلى أرض للاستقرار والتوطين، معطىً موضوعيا أفرز احتقانا اجتماعيا وسياسيا داخليا، ونتجت عنه ردود فعل دولية متباينة في ظل أزمة اقتصادية ومالية خانقة تعيشها تونس. وقد حفّزت كل هذه المعطيات المستجدّة السلطات التونسية على الشروع في تبنّي سياسات خارجية جديدة مع الاتحاد الأوروبي، تقوم على الضغط المتبادل وتغليب مصالحها تجاه شريكٍ صلف متعنّت، يفاوض دائما باستعلاء وبفوقية شوفينية مصطنعة، ولا يترك للدول الجنوبية غير الفتات من المساعدات التي لا تكاد تغطّي نفقاتها للتصدّي للهجرة غير الشرعية ولتأمين حدودها، في حين لم يعد أي مبرّر لهذا الاختلال في التوازن بين الدول الموجودة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط. ذلك أن هذه العلاقات الدولية القائمة على الخضوع والتبعية للطرف الأوروبي، والمتوارثة عبر أجيال متعاقبة من النظام السياسي التونسي، أضحت المعطيات الدولية الجديدة تفنّدها، وكذا بروز ملامح نظام عالمي جديد تشكّلت فيه تدريجيا قوى وتكتلات إقليمية صاعدة، تقطع مع الراهن الدولي. ولا يخفى على مطّلع على الوضع العالمي الراهن أن كل المؤشرات تنبئ برسم معالم خريطة جيو سياسية جديدة قائمة على تعدّد الأقطاب الاقتصادية، وعلى تنوعها وعلى بدء الإيذان بتزعزع أسس المركزية الأوروبية، وتهاوي المقوّمات الأيديولوجية والاقتصادية للنظام الليبرالي القائم على التفاوت المشطّ في النمو، وعلى انعدام المساواة بين الدول المتقدّمة والدول النامية.
وعلى ضوء هذه المتغيرات، تحاول تونس منفردة، وفي غياب شركاء من الاتحادين المغاربي والأفريقي، اغتنام الفرص وكبح لجام التسلط الأوروبي، حيث أضحى من الحتمي إرساء سياسة أوروبية جديدة للهجرة تؤدّي تدريجيا إلى "أنسنتها"، عبر اعتبار الإنسان محورا لها، وعبر ضمان حقه في حرية التنقل بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى إقامة شراكاتٍ دوليةٍ منصفة ومتوازنة بين بلدان الضفتين تضمن حقّ شعوب بلدان الضفة الجنوبية في التنمية وتوفير الحدّ الأدنى من العيش الكريم والحقوق الأساسية، وتقدّم حلا عادلا لمعضلة هجرة الأدمغة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي.
ونخلص، إذاً، إلى أنه لا مفرّ من تقييم ومراجعة الترسانة القانونية الشاملة والردعية التي أقرّها الاتحاد الأوروبي للحدّ من الهجرة غير الشرعية، وأفردها بهياكل ومؤسّسات مندمجة وتمويلات ضخمة، في حين ثبت يقينا أن هذه الخيارات والسياسات لم تؤت أكلها، ولم تحقّق أهدافها، بل ساهمت في تأجيج نيران الهجرة وقوارب الموت، وأماطت اللثام عن انتهازية مُفرطة، وعن 'الوجه البشع' لأوروبا التي لطالما تشدّقت بحماية حقوق الإنسان وبردع منتهكيها.
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية