في الانتخابات الرئاسية التونسية

18 أكتوبر 2024

في مركز اقتراع للانتخابات الرئاسية التونسية في العاصمة (6/10/2024 الأناضول)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

المتمعّن في نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية، وفي ما أحاطها من مناخ انتخابي، ومن مسار تركيز للمؤسّسات العمومية، التي تلت اعتماد الدستور الجديد إثر إقراره باستفتاء شعبي في 25 يوليو/ تمّوز 2022، لن يستعجب ما أفرزه الصندوق، ولن يجرؤ على السقوط في متاهات التشكيك في نزاهة الانتخابات وفي حياد الهيئة المشرفة عليها، من ناحية التنظيم العملياتي المتعلّق بالسير التقني للعملية الانتخابية، من تصويت وفرز وتجميع واحتساب للأصوات وإعلان نتائج. فالفوز الساحق للرئيس قيس سعيّد بولاية رئاسية ثانية بنسبة تفوق 90% له مبرّرات موضوعية، وهو تتويج لمسار سياسي وانتخابي مدروس، ولمشروع حكم وتمكين بدأ منذ تاريخ 25 يوليو/ 2021، عندما حلّ الرئيس سعيّد البرلمان التونسي وأقال رئيس الحكومة وعلّق العمل بدستور 2014.

نتيجة انتخابات 2024 غير مسبوقة منذ اندلاع الثورة التونسية، وما تلاها من انتخابات رئاسية مباشرة، فقد فاز المُترشّح من الدورة الأولى، ولم يُلجَأ إلى دورة ثانية، خلافاً للمحطات الانتخابية السابقة، بل تجاوزت نسبة الأصوات المتحصّل عليها بكثير النسب السابقة بما فيها تلك التي تحصّل عليها قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية سنة 2019، في مقابل منافسه نبيل القروي، إذ فاقت 70%، ولم تضاهِ النسبة الحالية التي تجاوزت 90%. وهي بالإضافة إلى ذلك نسبةٌ مرتفعةٌ جدّاً تُذكِّرنا بنسب الفوز التي كان يتحصّل عليها رئيس الجمهورية قبل اندلاع الثورة التونسية، التي كانت تعتبر آنذاك مؤشّراً للاستبداد والدكتاتورية وتغييب التعدّدية السياسية، والاكتفاء بالمعارضة الصورية والكارتونية لتلميع صورة النظام وإضفاء شرعيةٍ ديمقراطيةٍ مغشوشةٍ على وجوده واحتكاره السلطة.

وقد قطع النظام السياسي التونسي مع هذه الأنظمة الدكتاتورية والبوليسية مع قيام الثورة، التي كان من أبرز مطالبها الحرّية بمختلف تجلّياتها؛ حرّية التعبير، وحرّية الممارسة السياسية، سواء عبر الأحزاب أو المؤسّسات أو الأفراد، وحرّية الترشّح والانتخاب في مختلف الاستحقاقات الانتخابية، وحرّية الإعلام. وقد ترتّب من هذا المناخ السياسي زخمٌ عارمٌ من الأحزاب والجمعيات، وحرّية تعبير تكاد تكون منقطعة النظير في غيرها من الدول العربية، وتعدّدية سياسية وإن كانت في أغلب المراحل محكومةً باستقطاب ثنائي، وبتوافق هجين بين قوى سياسية مضادّة ومتباينةٍ، ما أدخل البلاد متاهةً من المزايدات والمهاترات السياسية، وأضفى على مؤسّسات الحكم تشتّتاً وتشظّياً ساهما في استفحال الفساد وتغلغل الفكر التكفيري والإرهابي، واستحكام سلطة اللوبيات وسطوتها على مفاصل الدولة، وطغيان اقتصاد الريع وتفاقم المديونية لصناديق المال الدولية، فالحرّية التي اعتُبِرت المكسب الأوحد للثورة لم يصاحبها إصلاح اقتصادي واجتماعي حقيقي، ولا بعث لمنوال تنموي جديد يحفظ كرامة الإنسان ويحقّق العدالة والرفاه له، ولم تستكمل بشن حرب فعلية على الفساد والمفسدين، وبحوكمة الإدارة ومختلف أجهزة الدولة. لذلك، رحَّبت نسبة مهمّة من شرائح المجتمع التونسي بإجراءات قيس سعيّد بحلّ البرلمان، الذي كان حلبةَ صراعٍ ونزاعٍ بين أطياف سياسية متنافرة ومتناحرة ساهمت في تأجيج الأحقاد وتهديد السلم الاجتماعي، واعتُبر (سعيّد) أيضاً منقذاً للبلاد من تغوّل الإسلام السياسي التي كانت حركة النهضة أكثر مكوّناته أهمّيةً، لكن الفترة التي تلت هذه الإجراءات شهدت تحوّلاتٍ مهمّةً وجذريةً في مسار الحكم وممارسة السلطة ورصيد الحرّيات، تمخَّض عن الثورة، فقد انبرى الرئيس بصورة فعلية لتحقيق مشروعه السياسي منفرداً، رفضاً لكلّ تشاركية أو انفتاح على القوى السياسية، معتبراً أنّ الأحزاب أجسام وسيطة ساهمت في تدنيس الحياة السياسية وتشويهها، فحاربها بكلّ ما أوتي من قوّة، وساهم في إقصائها فعلياً من المشهد السياسي، وركّز في المقابل النظام القاعدي الذي يقوم على منح السلطة للشعب ليمارسها من دون وساطة الأحزاب، وتجسّد ذلك عبر المحطات الانتخابية التي تمثّلت في انتخاب مجلس نواب الشعب عبر ترشّحات فردية لا حزبية، وفي انتخاب المجالس المحلية والمجالس الجهوية ومجالس الأقاليم، وما ترتب من ذلك من تركيز لغرفة تشريعية ثانية تمثّلت في المجلس الوطني للجهات والأقاليم، رغم ضبابية الصلاحيات المُسنَدة إليه، وعدم ضبط العلاقات التي تصله بمجلس نواب الشعب (الغرفة التشريعية الأولى).

 أضاعت أكثر الأحزاب أهمّيةً وزنها وتأثيرها وعمقها الشعبي تدريجياً

أسهم هذا البناء السياسي الجديد في القطع نهائياً مع النظام السياسي القديم والتأسيس لنظام حكم جديد يتمحور حول مؤسّسة رئاسة الجمهورية، التي احتكرت سلطة القرار والتدبير في إطار نظام أقرب إلى الرئاسوي منه إلى الرئاسي، إلّا أنّ هذا النظام الجديد لم يحافظ كلياً على جرعات الحرّية التي استطابها المجتمع التونسي، ومنحته فضاءاتٍ حرّةً للتعبير، و"التنبير" بحسب المصطلح الدارج التونسي الذي يفيد التهكّم والسخرية من دون قصد الخدش أو التجريح، فقد بسط يديه على الإعلام العمومي، وضيق على الإعلام الخاصّ، وسلّط عليه سلاح المرسوم 54، الذي أحكم الرقابة عليه، وأضحى معارضون عديدون لسياسات سعيّد، من سياسيين وإعلاميين، في السجن بتهم شتَّى، في إطار تشكيك بعضهم في استقلالية القضاء وحياده، وفي قدرته على إجراء محاكمات عادلة، واعتُبِر تعديل القانون الانتخابي من مجلس نواب الشعب، قبل أسبوعين أو أقلّ من موعد الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، النقطة التي أفاضت الكأس، إذ تضمّن تغييراً لقواعد الاختصاص في مادّة النزاع الانتخابي وسحب الاختصاص المنوط بعهدة القضاء الإداري ليمنحه للقضاء العدلي، ولم يكن هذا التعديل ضرورةً قانونيةً قهريةً بقدر ما كان ردَّةَ فعلٍ على الأحكام الصادرة من المحكمة الإدارية التي قضت بإلغاء قرارات اتخذتها الهيئة العُليا المستقلّة للانتخابات برفض ترشّح بعض الشخصيات الوازنة والمعروفة في الساحة السياسية، فقضت المحكمة بإرجاعهم إلى مضمار السباق الانتخابي، إلّا أنّ هيئة الانتخابات رفضت الامتثال إلى أحكام المحكمة الإدارية، وانخرط الطرفان في سجال قانوني وسياسي لم يقع الحسم فيه، لكنّه أسهم في بلبلة سير العملية الانتخابية وإرباكها.

يعود بنا هذا إلى النتائج الانتخابية، ويُفسِّر إلى حدٍّ بعيدٍ الفوزَ الساحقَ للرئيس قيس سعيّد. فعلى المستوى السياسي، سعى سعيّد إلى إضعاف خصومه السياسيين وتهميشهم عبر إقصائهم من المشاركة في اتخاذ القرار، وعبر تقزيم دور الأحزاب بإقرار الترشّحات الفردية عوضاً عن الحزبية، وبملاحقة بعض قياداتها قضائياً. ولا غرابة في ذلك، فهو لم ينبثق من منظومة حزبية، ولم يستنجد يوماً بحزب أو بكتلة سياسية لنصرته، بل ظهر دوماً بمظهر المنحاز للشعب والحامل لهمومه والمستنصر به وبإرادته، لذلك أضاعت أكثر الأحزاب أهمّيةً وزنها وتأثيرها وعمقها الشعبي تدريجياً، وذلك إما اختياراً منها عبر المقاطعة لمسار 25 يوليو (2021)، وللاستحقاقات السياسية التي تمخّضت عنه، وإمّا إكراها عبر التضييق على التي ارتضت المشاركة فيه وهلَّلت له.

العشرية التي تلت الثورة، وإن تميزت بالحرّية والتعددية، فإنّها اتسمت أيضاً بالمتناقضات والائتلافات السياسية المغشوشة

أمّا انتخابياً، فكان السعي إلى إقصاء المترشّحين الذين قد تكون لهم حظوظ محترمة في الانتخابات، ولم يقع الإبقاء إلّا على منافسين اثنين للرئيس قيس سعيّد. الأوّل وجّهت له العديد من التهم وصدر ضدّه حكمٌ ابتدائيٌّ بالسجن، ولم تُتح له فرصةُ خوض الحملة الانتخابية، وهو العيّاشي زمّال المحسوب على التيّار الدستوري الليبرالي، والثاني زهير المغزاوي القومي العروبي، وقد لعبت هيئة الانتخابات دوراً مهمّاً في الفرز والإقصاء بإبقائها على ثلاثة مرشّحين، رغم إلغاء المحكمة الإدارية قراراتها القاضية برفض بعض الترشّحات، فلا يمكن بأيّ حال أن يمثّل هذا العدد المحدود من المترشّحين مختلف الأطياف السياسية والميولات الشعبية، وأن يعبّر عن تطلعات مختلف شرائح الناخبين. كما أنّ العملية الانتخابية لم تشهد حملات انتخابية تقليدية وفعلية تسمح للمترشّحين الثلاثة بالتناظر وتقديم برامجهم، وطغت عليها الشعبوية والحملات الفلكلورية، وفقدت بريقها رغم أهمّية هذه الانتخابات ومركزية شخصية رئيس الجهورية في نظام الحكم. ولعب أعضاء المجالس المنتخبة، التي تركَّزت وفقاً لدستور 2022، دوراً مهمّاً في الدعوة إلى انتخاب الرئيس قيس سعيّد، وفي تحشيد الشارع لمساندته، فتركيبتها تشمل أطيافاً سياسيةً مواليةً في معظمها له، وتساند مشروعه وفِكَرَه وأطروحاته، بل تتجنّد لخدمتها عبر الصلاحيات التي مُنحت لها دستورياً. والغريب أنّ بعضاً من المحسوبين على تيّارات سياسية أخرى في صلب هذه المجالس جاهر بمساندته سعيّد وبدعمه، وصوّت لصالح مقترح القانون الذي عدَّل قواعدَ الاختصاص الانتخابي، والذي كان موضع انتقاد شديد من فئة مهمّة من المتخصّصين في القانون والمهتمين بالشأن العام، نظراً لتزامنه مع الزمن الانتخابي ولإقصائه القضاء الإداري الذي عرف عبر مختلف الأحقاب السياسية التي مرّت بها البلاد بحياده واستقلاله.

ولعلّ ما يُحسب للرئيس قيس سعيّد صدقه ووفاؤه لعهوده، ونظافة اليد والنزاهة، و قربه من الشعب الذي دنا من الشعبوية، فهو على خلاف أغلب السياسيين، الذين خبرهم الشعب التونسي إثر الثورة، لم يكذب ولم يسعَ إلى كسب امتيازات مالية أو عينية، والتزم بجلّ الوعود التي وعد بها على المستوى السياسي، بتركيز مشروعه السياسي، وبإقصاء القوى التي لا يعتبرها وطنيةً، وبتخليص البلاد من المتآمرين العابثين، كما يراهم هو من وجهة نظره الخاصّة، التي لا نستبعد أنَّها تتلاءم مع وجهة نظر نسب مهمّة من الشعب التونسي، فعدد المصوّتين له ناهز المليونين ونصف المليون رغم نسبة الإقبال التي لا تزال ضعيفةً مقارنةً بالانتخابات الرئاسية السابقة (تقارب 30%)، ما يعني حسابياً أنّ معظم من توجّه إلى صناديق الانتخاب يوم السادس من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، هم إمّا من أنصار قيس سعيّد والموالين له، أو من المتمسّكين به على مضضٍ لأنّه لا وجود لبديل له في قائمة المرشّحين والفاعلين السياسيين، أو من الذين قاموا بتقييم ذاتي لأدائه طوال السنوات الماضية واعتبروا أنّ ما يحسب له أكثر ممّا يُحسب عليه، وفق سلّم خياراتهم وأولياتهم ورؤيتهم لمصلحة البلاد، فلا تزال نسبة من الشعب التونسي تعتبره قد أنقذ البلاد من خطر محدق يوم 25 يوليو/ تموز 2021، وأنّه استبعد الإسلام السياسي من الحكم، ويرون أنّ عجزه عن تحسين ظروف عيش المواطنين ومقدرتهم الشرائية ومرافقهم العمومية، يعود (من منظورهم) إلى المعرقلين له، وإلى الرافضين للإصلاح والمنتفعين من الفساد والاحتكار ونهب أموال الشعب، وإلى المؤامرات التي تحاك ضدّه لثنيه عن المضي في "تحرير البلاد" نهائياً من المتربّصين بها وبأمنها، فالمزاج الشعبي التونسي عاطفي إلى أبعد الحدود، يحتكم إلى النيّات والمشاعر أكثر من احتكامه إلى العقل.

مستقبل تونس رهين السياسة التي سيتّبعها الرئيس الذي حاز ثقة الشعب بنسب عالية، رغم ما حفّ بهذه الانتخابات من انتقادات وزلَّات

أضف إلى ذلك أن العشرية التي تلت الثورة، وإن تميزت بالحرّية والتعددية، فإنّها اتسمت أيضاً بالمتناقضات والائتلافات السياسية المغشوشة القائمة على الأضداد وكسر العظام المتبادل والتنازلات الهدّامة المبنية على المصالح الخاصة لا المصلحة الوطنية وتشتّت السلطة، ولم تحقّق للشعب الاستقرار السياسي والأمن الرفاه التي كان يحلم بها، رغم الانتظار والآمال الكبرى التي علّقها الشعب على الثورة، بل زجّت هذه العشرية من الحكمِ البلادَ في دوامة من العنف السياسي الخطير، ولم تُحدث القطيعةَ مع منوال التنمية القديم بقدرٍ يُحقّق العدالةَ الاجتماعية، ويقطع مع الفساد الذي استشرى في أوصال الدولة. أمّا النسب الضعيفة التي تحصّل عليها المترشّحان المنافسان لسعيّد (أكثر من 7% لزمال، وأكثر من 1% للمغزاوي)، فهي دليل على عدم قدرتهما على إقناع من تبقَّى من شرائح الناخبين الممتنعين عن التصويت بالخروج إلى صناديق الاقتراع والتعبير عن تطلّعاتهم وتصوّراتهم لمستقبل البلاد والعباد. كما أنّ رضاهما عن التنافس في مناخ انتخابي غير ملائم يُحسب عليهما لا لهما، إذ قد يكون انسحابهما من مضمار السباق الانتخابي في الوقت المناسب أسلمَ لهما، فشرف مشاركةٍ غير محسوبة العواقب أمرٌ قد يؤدّي إلى تدمير مستقبلهم السياسي، وإلى الحطّ من نضاليتهم، والبون الشاسع في النتائج المسجَّلة من شأنه أن يُسيء إلى المسار الديمقراطي أكثر ممّا يضيف إليه ويثريه.

محصّل القول، تبقى شخصية قيس سعيّد، ظاهرةً سياسيةً، أمراً ملفوفاً بالتساؤلات والغموض الذي يكتنفها باعتبارها تحتاج إلى دراسةٍ من مختلف جوانبها من دون الاقتصار على زاوية محدَّدة قد تكون مُضلِّلةً وتنأى بنا عن الموضوعية، فلا يمكن فصلها من سياقيها التاريخي والسياسي، محلّياً وإقليمياً، ولا يمكن انتزاعها من عمقها الشعبي. كما أنّ المستقبل السياسي للبلاد رهين السياسة التي سيتّبعها الرئيس الذي جُدّدت ولايته، وحاز ثقة الشعب بنسب عالية، رغم ما حفّ بهذه الانتخابات من انتقادات وزلَّات، فهل سيتبع مسار التشييد والبناء الفعلي في مناخ من الحرّية المسؤولة؟ وهل سيسعى إلى الانفتاح على بقية القوى السياسية وإلى إصلاحٍ حقيقيٍّ وشاملٍ ينعكس إيجاباً في ظروف عيش المواطن وفي المرافق الأساسية التي ينتفعون بها، ويقطع نهائياً مع المحسوبية والفساد ويُحقّق العدالة الاجتماعية؟ ... أمام الرئيس سعيّد فرصةٌ تاريخيةٌ لينحت اسمه في التاريخ زعيماً كبيراً في البلاد، لا سيّما في ظلّ هذا الالتفاف الشعبي التي برهنت عليه الانتخابات الرئاسية أخيراً، فهذه الظواهر السياسية الشاذة عن المألوف والمعتاد إمّا تصنع التاريخ وإما يأفل نجمها وتبقى مُجرَّد ظاهرةٍ عابرة، والأمر يتطلّب كثير من التضحيات والحنكة السياسية والمباشرة الفعلية للإصلاحات والمشاريع الكبرى، كما يقتضي الانتباه إلى ضرورة عدم الانجرار إلى مناخات خطيرة من التضييق على الحرّيات والاحتكار للسلطة، فالشعب يمنح ثقته ويراقب ممثّليه وبإمكانه أيضاً أنّ يحاسبهم إن ضلّوا الطرق والنُهَج الصحيحة، فقد طال انتظار الشعب التونسي لتغيير حقيقي يطاول حياته اليومية، ويبرهن له أنّ الثورة لم تكن محطّةً عابرةً في تاريخه، بل هي لحظة فارقة تنتظر موسم الحصاد وجني الثمار، وتستوجب مزيداً من التضحيات والنضال، كما أنّ عزوفه عن السياسة لا يعني استقالةً تامّةً من الحياة العامّة، بل قد يرمز إلى تأمّل حصيف وترقّب حكيم لما ستؤول إليه الأمور في البلاد، فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم تبقى رهينةَ مقتضيات العقد الاجتماعي والسياسي الذي أُبرِم بينهما، إن استبطنت بنوده والتُزِم بمبادئه وبأحكامه نجا الحاكم وتحرّر المحكوم، وإن انتُكص عنه وتم التلاعب به طغى الحاكم وانتفض المحكوم. كما أنّ على النُخَب السياسية بمختلف مشاربها وأطيافها أن تنقد ذاتياً (وتراجع مراجعات حقيقية وموضوعية) أداءها طيلة الحقبة السياسية التي عقبت الثورة التونسية، وألا تحمّل الحاكم وِزر ما تعيشه راهنا من أزمات، وذلك حتّى يتعايش الحاكم والمحكوم ومختلف النُخَب السياسية، ويتصالحوا مصالحةً حقيقيةً لا تعلو فيها سوى المصلحة المشتركة للبلاد.

17AF8564-3BED-45F2-91F9-62638915689F
17AF8564-3BED-45F2-91F9-62638915689F
نجيبة بن حسين

أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية

نجيبة بن حسين