المقاطعة سلاحاً شعبياً
لا يمكن الاستهانة بسلاح المقاطعة الاقتصادية ضد الدول التي تقف مع إسرائيل وتدعمها في إجرامها، ولا يمكن النظر إلى دعوات عرب كثيرين إلى المقاطعة حاليا إلا بكل الاحترام والتقدير، خصوصا مع حالة العجز التي نعيشها جميعا حيال ما يحدُث، ومع اليأس من أي تغييرٍ لذهنية المجتمع الدولي (الرسمي) في تعاطيه مع الحرب الحالية ودعمه اللامحدود لإسرائيل ومشاركته في الحرب فعليا، سواء عبر حشد جيوشه في المتوسط، أو عبر التهديد في حال تدخّل أي طرفٍ لصالح الفلسطينيين، أو عبر الدعم اللوجستي المادي والعسكري لإسرائيل، أو عبر استخدام حقّ الفيتو في مجلس الأمن ضد أي قرارٍ داعٍ إلى هدنة إنسانية أو وقف لإطلاق النار. ما يدلّ بوضوح على أن ثمّة قرارا دوليا بمسح غزّة من الوجود وإبادة الفلسطينيين وتهجير من يبقى منهم على قيد الحياة في نسف كامل، لكل القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
والمؤسف هنا أن النظام العربي الحاكم يبدو كما لو أنه يتشارك مع المجتمع الدولي في القرار إياه، إذ حتى اللحظة لم تُبادر أية دولة عربية باتّخاذ أي موقفٍ حاسمٍ تجاه إسرائيل. المواقف الرسمية المعلنة على درجة من الميوعة والرخاوة تصيب لا باليأس فقط، بل بالغثيان أيضا، خصوصا وأن دولا كثيرة تمنع شعوبها من التظاهر والتعبير عن الغضب الشعبي مما يحدُث، بحيث لا يختلف الأمر مطلقا عما تفعله دول أوروبية داعمة بشدة لإسرائيل، منعت المظاهرات أو رفع العلم الفلسطيني. ولن يبدو غريبا إن حاكمت أنظمة عربية مواطنيها المعادين لإسرائيل بتهمة معاداة السامية، خصوصا وأننا بدأنا نسمع أصواتا عربية تمجّد ما يفعله العدو الإسرائيلي من عواصم عربية، من دون أن يوضع ذلك تحت بند الخيانة، كما كان يحدُث سابقا، قبل أن يختفي ماء الوجه الرسمي العربي.
وبالعودة إلى حديث المقاطعة الاقتصادية التي ما تزال شعبيةً، وتختص بمنتجات استهلاكية لعلامات تجارية معظمها أميركية، ولها وكلاء في البلاد العربية، بعضها يدعم علنا جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأخرى مملوكة لرؤوس أموال إسرائيلية، ففي الحقيقة، للأمر وجهان، يجب النظر إليهما بكثير من الشفافية والموضوعية، ذلك أن وكلاء هذه العلامات التجارية هم عرب، ويشغلون أيادي عاملة عربية، ما يعني أن أسرا وعائلات عربية عديدة تعيش من داخلها. سوف تحرم المقاطعة تلك العائلات من مصدر دخل قد يكون وحيدا، خصوصا في ظل الأوضاع الاقتصادية المزرية التي تعيشها بلادنا، وانخفاض خط الفقر إلى حد غير مسبوق. من ناحية أخرى، سوف تقلل المقاطعة، إلى حد كبير، من أرباح مالكي تلك العلامات، بالنظر إلي حجم السوق العربي، وإلى كمّية استهلاك منتجاتها عربيا على الأقل؛ وهو أمرٌ بالغ الضرورة حاليا: أن يشعر هؤلاء ببعض الخسارة نتيجة دعمهم إجرام دولة محتلة.
ولكن، هل البديل المحلي لهذه المنتجات متوفر في الأسواق العربية، وبمواصفاتٍ قادرة على المنافسة؟ بقدر ضرورة هذا السؤال صعوبة الإجابة عليه، ذلك أن معظم وكلاء تلك العلامات التجارية من شريحة رجال الأعمال الكبار المقرّبين من الأنظمة. عمل هؤلاء بنشاط عقودا على تدمير كل المنتجات الوطنية بالكامل، بدءا من الاسم وحتى المواد المستخدمة. وما بقي صامدا لا يملك رأس المال اللازم لمنافسةٍ من هذا النوع، ولا ليكون بديلا متاحا لاستيعاب المتسرّبين من العمّال والموظفين من تلك العلامات نتيجة المقاطعة. تخيّلوا مئات الألوف من الموظفين والعمّال العرب سوف يجدون أنفسهم بلا عمل، ولا مصدر دخل، هم وعائلاتهم. سوف يصبح هؤلاء، مع عدم الاكتراث الرسمي بمصائرهم أو تأمين مداخيل بديلة لهم، ناقمين على القضية بقدر نقمتهم على العدو، وهذا أكثر ما يريده عدوّنا الصهيوني: أن يتساوى غضبنا من الظالم مع غضبنا من المظلوم.
الإجابة عن سؤال الحلّ في معضلة كهذه تكمن في الموقف العربي الرسمي، في المقاطعة الرسمية، في سلاح النفط، في قطع العلاقات بالكامل، في إلغاء كل الاتفاقيات مع العدو، في السماح للشعوب بالتعبير عن غضبها، تغيير الخطاب الإعلامي الرسمي، في استعادة تهمة الخيانة حين تأييد المحتلّ أو دعمه أو التخابر معه. وللأسف، لن يحدث هذا، ذلك أن ما وصلت إليه حال النظام العربي الحاكم من الرداءة لا يمكن وصفه، ولا يسعد أحدا سوى العدو.