المغرب أمام رهان محاربة الفساد

03 مايو 2023
+ الخط -

أعاد اعتقال النائب والوزير المغربي السابق محمد مبديع على ذمّة التحقيق في قضايا تتعلق بشبهات فساد وتبديد أموال عمومية واستغلال النفوذ، الجدل في المغرب حول ظاهرة الفساد وطرق محاربتها في البلاد، خصوصا أن الاعتقال طاول هذه المرّة شخصية عمومية كبيرة، فالمعتقل وزير سابق، وكان حتى اعتقاله رئيس لجنة التشريع في البرلمان، ورئيس بلدية منطقة الفقيه بنصالح (وسط)، وهو عضو بارز في حزبٍ معروف بقربه من السلطة. ومثل هذا الاعتقال، في قضايا مرتبطة بالفساد، نادرا ما يحدُث في المغرب، حتى بات أغلب المغاربة يعتقدون أن المناصب والمسؤوليات توفّر لأصحابها حصانة تمكّنهم دائما من الإفلات من العقاب، ولهم في ذلك أمثلة كثيرة لحالات شبهات فساد طاولت مسؤولين كبارا توبعوا في حالة سراح، أو أفرج عنهم مباشرة بعد اعتقالهم، وظلوا أحرارا بدون محاكمة حتى نُسيت ملفاتهم. وفي حالات أخرى، صدرت إدانات في حق أصحابها، من بينها أحكام بالسجن النافذ. ومع ذلك لم يعتقل المدانون، بل ما زال منهم من يتولى مناصب داخل مؤسّسات الدولة، ومن بينهم منتخبون يمثلون الشعب داخل البرلمان المغربي بغرفتيه!

لذلك، كان طبيعيا أن يتفاعل مغاربة كثيرون مع حالة اعتقال الوزير المشتبه في تورّطه في قضايا فساد، خصوصا أن هذه الشبهات ليست جديدة، بما أنه سبق للشخص نفسه أن خضع لتحقيقات من الشرطة القضائية، وصدرت تقارير عن المجلس الأعلى للحسابات، وهو بمثابة محكمة مالية رسمية، تشير إلى اختلاساتٍ وفسادٍ في حسابات البلدية التي ظل الوزير المعتقل يديرها أكثر من ربع قرن. وعكس ما تشهده الجزائر التي اعتقل ودين فيها في السنوات الأخيرة مسؤولون سابقون كبار، منهم رؤساء حكومات ووزراء سابقون وجنرالات بل وشقيق رئيس سابق، وزجّوا في السجن بعدما دانهم القضاء. والشيء نفسه في موريتانيا التي يتابع فيها الرئيس السابق في قضايا ذات علاقة بشبهات فساد. ولكن الفساد في المغرب، خصوصا عندما تطاول شبهاته مسؤولين كبارا، ظلّ محميا، وأصحابه محصنين، بل ويٌرقّون في مناصبهم ومسؤولياتهم رغم صدور تقارير رسمية تستوجب التحقيق معهم في ما سجلته من شبهات فساد واستغلال نفوذ واختلاسات داخل مؤسّسات عمومية أو منتخبة أداروها أو ما زالوا يتولون إدارتها بعيدا عن كل محاسبة أو مساءلة وفي إفلات تام من كل عقاب، حتى بات الاعتقاد سائدا في المغرب بأن المسؤولية والمنصب يحميان صاحبهما من كل متابعة، وكلما ارتفع المنصب وارتقت المسؤولية أصبح صاحبهما "مقدّسا"، ما دفع الصحافة المستقلة في المغرب، في زمن ازدهارها، إلى ابْتِدَاعِ وصف "الفساد المقدّس" عند الحديث عن شبهات فساد تطاول مسؤولين كبارا داخل أروقة الدولة المغربية، يدرك الجميع أنهم محصّنون من كل محاسبة أو مساءلة بعيدا عن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي ينص عليه الدستور المغربي.

تقوّت شوكة الفساد واستشرى نفوذ أصحابه حتى طاول قطاعات حسّاسة

هل حالة الاعتقال التي طاولت أخيرا وزيرا سابقا ومسؤولا حزبيا كبيرا ونائبا، تعبير عن إرادة سياسية جديدة داخل الدولة المغربية للتصدّي للفساد حتى عندما يتعلق الأمر بشخصيات تحتل مناصب كبيرة أو تتولّى مسؤوليات عليا؟ أم هذه الحالة معزولة ويجب قراءتها حسب الخلفيات والظرفية والتوقيت الذي وقعت فيه؟ وما الذي يجعل محاربة الفساد في المغرب تتعثر وتفشل بالرغم من كل ما يسبّبه من ضرر للبلاد والعباد؟ ما يخشاه مغاربة كثيرون تفاعلوا إيجابيا مع هذا الاعتقال، باعتباره استجابة لمبدأ المحاسبة القانونية لكل من يتحمّل مسؤولية سياسية تحوم حوله الشكوك بخصوص التورّط في قضايا فساد واختلاس المال العام، أن تتحوّل هذه المساءلة إلى مجرّد مناسبة لامتصاص الغضب الشعبي وتنفيس حالة الاحتقان الاجتماعي في ظرفية اقتصادية صعبة، موسومة بارتفاع الأسعار وانسداد الآفاق أمام شرائح واسعة من أفراد الشعب المغربي، لكنها لن تصل بالضرورة إلى ما حصل في تسعينيات القرن الماضي عندما بادرت السلطة إلى شن "حملة تطهير"، لمحاربة الفساد في وقت كان فيه الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المغرب مهدّدا بـ"السكتة القلبية"، حسب تعبير الملك الراحل الحسن الثاني، وسرعان ما تحوّلت تلك "الحملة" إلى انتقام وتصفية حسابات وصراعات بين نافذين داخل دوائر السلطة العليا، كانت آثارها كارثية على الاقتصاد في البلاد.

وطوال العقود الثلاثة الماضية تقوت شوكة الفساد واستشرى نفوذ أصحابه حتى طاول قطاعات حسّاسة، أصبح يصعُب معها محاربته، بالرغم من كل الإجراءات القانونية والهيئات الرسمية التي وضعتها الدولة لمحاربته، بما أنه لا توجد إرادة سياسية حقيقية لمواجهة كل أشكال الريع والفساد الذي تحوّل إلى "دولة داخل الدولة" له حرّاسه وحماته. ففي ظل السنوات الأربع الماضية، فقد المغرب ما يزيد عن خمس نقاط في مؤشّر محاربة الفساد وتراجع مركزه عالميا إلى الخلف 21 درجة، حتى بات يحتل المركز 94 عالميا، بالرغم من وجود هيئة رسمية وقوانين وإجراءات ونيات حسنة في الخطابات الرسمية لمحاربته واجتثاثه. المغرب اليوم أمام رهان حقيقي لمحاربة الفساد الذي كانت تصل كلفته السنوية، قبل أربع سنوات، وهي في ارتفاع مستمر، إلى نسبة 5% من الناتج الداخلي الخام، أو ما يعادل خمسة مليارات ونصف مليار دولار سنويا، حسب أكثر التقديرات تواضعا وموثوقية. وما زالت محاربة هذه الظاهرة تحتاج كثيرا من الشجاعة والجرأة لاستعادة ثقة الناس في خطاب السلطة وفي المؤسّسات العمومية وفي السياسة والسياسيين بصفة عامة، حتى لا تتحوّل جهود الدولة في محاربة هذه الآفة إلى مجرّد حملات دعائية، سرعان ما ينتهي مفعولها مثل أقراص تهدئة الصداع تُسَكِّنه للحظة، لكنها لا تعالج أسبابه التي تظلّ تنخر الجسد من الداخل حتى تُنهكه وربما تقتل صاحبه!

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).