المعايير الأخلاقية والأيديولوجيا
قد يجد سوريون كثيرون معارضون أنفسهم حالياً في مأزق سياسي وأخلاقي إزاء الوضع السياسي العربي والدولي، خصوصاً ما يتعلق بفلسطين؛ ذلك أنه لا خلاف بشأن صوابية الموقف من حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي ضد أهل غزة. ولا خلاف حول أخلاقية مساندة القضية الفلسطينية منذ نشوئها. ولا خلاف أيضاً حول الموقف من النظام السوري، بوصفه وجهاً آخر لأنظمة الإبادة، فما فعله في سورية خلال العقد الماضي لا يختلف كثيراً عما فعله الاحتلال بفلسطين، بل هو أعطى مبرّراً للحكومة الإسرائيلية التي صرّحت أكثر من مرّة بأن جيشها لا يفعل أكثر مما فعله الأسد بالسوريين، فلماذا لم يُجبر الأسد على التوقف عن القتل والتهجير والتدمير؟ وفي الحقيقة لا يمكن لنا، نحن السوريين، إلا طرح السؤال نفسه: لماذا لم تطلب الدول المناهضة لإسرائيل من النظام السوري التوقف عن حربه ضد شعبه، ولماذا لم تجر محاكمته في المحكمة الدولية؟
ولكن موازين الحق والأخلاق في زمن التخبط السياسي يجب أن تكون في غاية الدقة، وألا يتم فيها خلط الصالح بالطالح ولا ترجيح كفّة على أخرى، ذلك أن التعويل على أخلاق السياسة الدولية، والتعويل على تنحية الأيديولوجيا في تناول قضايا الشعوب يكاد يكون من ضروب المستحيلات. بالنسبة إلى سياسات الدول وأنظمتها هناك أيديولوجيات يجري الاحتكام إليها في العلاقة مع أي نظام آخر، وهو ما جعل دولاً وأنظمة عديدة تقف مع النظام السوري في حربه المجنونة ضد شعبه؛ فهو بالنسبة لتلك الدول أحد الأنظمة المعادية لأميركا وللغرب الإمبريالي الاستعماري، وهذا يكفي لها لتسانده ولترى بما حدث في سورية مؤامرة إمبريالية عليه. من دون شك، هذا منطق بالغ السذاجة، ولا ينبغي أن يكون هو من يسيّر سياسات الدول، لكن ثمة قول "شعبي" عن الأيديولوجيا إنها أحياناً "تشبه الرسن تقود الثور الذي يفلح الأرض إلى خط وحيد لا يحيد عنه". لكن هذا الرسن يؤدي، في مرّات كثيرة، مهمته على الوجه الصحيح، لذلك وجوده ضروري على رقبة الثور.
ينطبق هذا تماماً على دول أميركا الجنوبية التي تقف من دون شرط مع الفلسطينيين، وينطبق على معظم الدول التي ساندت نظام الأسد، وينطبق أكثر على جنوب أفريقيا التي قامت بخطوة تاريخية وغير مسبوقة ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي. ساندت كل هذه الدول النظام السوري وأيّدته من منطق أيديولوجي (نستثني إيران وروسيا والصين كدول تتبع مصالحها لا أيديولوجياتها السياسية)، وهي، في الوقت نفسه، الدول الوحيدة التي تقف موقفاً بالغ الاحترام والقوة والحسم ضد العدو الصهيوني، وهي الدول الوحيدة التي يمكن القول عنها إن لها موقفاً أخلاقياً وإنسانياً مما يحدث للفلسطينيين حالياً، خصوصاً مع الصمت العربي المريب، والبالغ حد التواطؤ مع العدو، والإعلانات المتتالية عن مكافأته بالتطبيع مقابل حلّ الدولتين غير العادل وغير المنصف للفلسطينيين.
الدعم السابق لتلك الدول للنظام السوري في حربه ضد السوريين، ينبغي ألا يجعل منا، نحن السوريين المعارضين نظام الأسد، متنمّرين وناكري جميل لما تفعله حالياً من الوقوف المبدئي ضد دولة الاحتلال، والتفرّد الدولي في محاولة معاقبتها على جرائمها، عبر المسارات القانونية الدولية، ليس فقط من باب الصوابية الأخلاقية والسياسية والقيمية، بل أيضاً من باب المصلحة الصرفة؛ ذلك أن سقوط دولة الاحتلال أو تقليص نفوذها يخدم بلادنا، وسورية بشكل خاص، خدمة كبيرة. فمنذ بداية ظهور حكم العسكر في بلاد العرب، استخدمت أنظمته القضية الفلسطينية ذريعة للاستبداد والتسلط والفساد الذي أوصل بلادنا إلى حالة الفشل والتدهور الذي نعاني منه حالياً. وبعد الربيع العربي، اتضح أن أول داعمي هذه الأنظمة إسرائيل، لا سيما في سورية، رغم محاولات اتهام الثورة السورية بأنها مؤامرة إسرائيلية، واتهام المؤيدين لها بالعمالة والخيانة؛ لكن كل مجريات الأحداث خلال العقد الماضي أكّدت دور إسرائيل في حماية النظام، وهو ما صرّح به أيضاً عدة مسؤولين سوريين بداية الثورة من دون تردّد.
ثمّة مصلحةٌ سوريةٌ وعربيةٌ شعبيةٌ بفضح إسرائيل ومعاقبتها على جرائمها، ليس فقط لإنقاذ فلسطين والفلسطينيين، بل أيضاً لإنقاذ غالبية الشعوب العربية مما هي فيه. ربما لهذا السبب، رفضت الأنظمة العربية مساندة جنوب أفريقيا في دعواها الدولية ضد إسرائيل، فهي تدرك أن الخطر الذي سيلحق بإسرائيل سوف يطاول وجودها بعد حين.