المعارضة التونسية في الخارج من بورقيبة إلى سعيّد
يعود تشكّل نواة الكيان الأول للمعارضة التونسية في الخارج إلى سنوات ما قبل استقلال البلاد (1956) مع اندلاع خلافٍ تاريخيٍّ بين الزعيمين الوطنيين الحبيب بورقيبة (1903-2000) وصالح بن يوسف (1907-1961) الذي عارض سنة 1955 الاستقلال الداخلي الذي قبل به بورقيبة، ما أدّى إلى صدام دموي بين بن يوسف أمين عام الحزب الحر الدستوري الجديد وجماعته وبورقيبة رئيس الحزب ومناصريه.
اتهم صالح بن يوسف الحبيب بورقيبة بالخيانة الوطنية، وحثّ المقاومين من أتباعه على مواصلة الكفاح المسلح من أجل الاستقلال التام، لا بالنسبة إلى تونس فحسب، وإنما إلى جميع الأقطار المغاربية، وظلّ بن يوسف على موقفه حتى اغتياله في فرانكفورت عام 1961 من الأجهزة الرسمية التونسية.
زعزع الصداع بين الزعيمين الكبيرين المجموعات الوطنية الأخرى، مثل اتحاد النقابات واتحاد الطلبة، باثا في صفوفها الصراعات والانقسامات. وفي 28 يناير/ كانون الثاني 1956، أصدر وزير الداخلية آنذاك، المنجي سليم، أمرا باعتقال أنصار بن يوسف الذي تمكّن من أن يتجاوز الحدود، متوجّها إلى طرابلس، ومنها إلى القاهرة، ليحتضنه نظام ثورة 23 يوليو (1952) بقيادة جمال عبد الناصر. ومع استقرار بن يوسف في القاهرة، التحق به الطاهر لسود، أحد القادة البارزين للحركة الوطنية المسلحة، ما اعتبر النواة الأولى للمعارضة اليوسفية لبورقيبة في الخارج.
وتُجمع مصادر تاريخية موثوقة على أن تفجّر الصراع بين جناحي الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف أخرج للعالم ميلاد المعارضة اليوسفية التي كان صالح بن يوسف قطبها، ولكنها كانت تضم تياراتٍ فكرية وأحزابا سياسية قومية ومنظمات نقابية وعناصر وطنية وأخرى ثورية تؤمن بالكفاح المسلح، علاوة على قطاعات ومكوّنات عديدة متناقضة مع بورقيبة، ما أدّى إلى تشكّل أكبر كيان معارض للنظام الجديد في تونس. وقد تضخّم هذا الكيان اليوسفي المعارض بانضمام الحزب الحر الدستوري القديم إليه بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي وجامعة الزيتونة المدافعة عن الهوية العربية الإسلامية لتونس، وذات العداوة التقليدية لبورقيبة، بسبب علمانيّته وميوله الغربية، كما انضمّ كبار المزارعين إلى الحركة اليوسفية حماية لمصالحهم أمام النزعة العمّالية الاشتراكية التي كان يمثلها الاتحاد العام التونسي للشغل، بزعامة الحبيب عاشور، المتحالف مع بورقيبة.
كثف القذافي الدعم والعتاد لمعارضي بورقيبة الذي لم يكن العقيد منسجما معه
وقد اشتدّ عود هذه المعارضة التي اتخذت من القاهرة حصنا لها بانضمام قسمٍ من جيش التحرير (الفلاقة) ذي الميول العربية المشرقية. وقد ساعدت عناصر أخرى على قيام السياق المناسب لنشأة هذه المعارضة وتعزيز حضورها القوي، أهمها اندلاع الثورة الجزائرية المسلحة في أول نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 على إثر هزيمة الإمبريالية الفرنسية في معركة "ديال بيان فو" في فيتنام يوم 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1954. وقد أدّت هذه العوامل المساعدة الجديدة إلى انسحاب شخصيات وطنية بارزة من الجناح البورقيبي، لتنضمّ إلى جانب بن يوسف، ومن أبرز هذه الشخصيات يوسف الرويسي، والممثل الرسمي لحزب بورقيبة في القاهرة، إبراهيم طوبال، الذي انضم إلى لجنة تحرير المغرب العربي خلال اجتماع لها (أكتوبر/ تشرين الأول 1955) لتصدر قرارات لصالح بن يوسف وجماعته، أهمها فصل حزب بورقيبة ورئيسه من عضوية اللجنة. وبذلك تبلور خط الحركة اليوسفية المعارضة باعتبارها تيارا وطنيا وعروبيا، يقوده الزعيم صالح بن يوسف من القاهرة وتدعمه دعما قويا جبهة التحرير الوطني الجزائرية بقيادة محمد خضر وحزب الاستقلال المغربي بقيادة الزعيم علال الفاسي.
وتجاوزا لمآلات الحركة اليوسفية المعارضة بعد اغتيال زعيمها صالح بن يوسف في ألمانيا 1961 من الأجهزة الرسمية التونسية، يبدو اليوم أن عدد المعارضين اليوسفيين قد تضاءل عبر السنوات الماضية، إذ ظلّ من بقي منهم متمسّكا ليصدر مقالات ببعض الصحف البيروتية، كالبلاغ وجريدة إفريقيا وآسيا وغيرها، كما ظلّ يوسفيون ومتعاطفون معهم إلى نهاية حكم بورقيبة (1987) والسنوات الأولى لحكم بن علي يقيمون في عواصم عربية، في مقدمتها الجزائر، حيث نشطت لجنة اللاجئين السياسيين التونسيين برئاسة المحامي، علي الكعبي، ومساندة ودعم اليوسفي القديم، إبراهيم طوباي. وفي بغداد ودمشق، نشطت شخصيات بعثية ويوسفية معارضة، على غرار الطاهر عبد الله ومحمد صالح الهرماسي ومسعود الشابي وغيرهم، كما احتضنت العاصمة الليبية طرابلس معارضين لبورقيبة ونظامه استقطبهم نظام معمّر القذافي. وأدمج بعضهم في المعسكرات الليبية ليتم استغلالهم في مهمّات عديدة. وقد كثف القذافي الدعم والعتاد لمعارضي بورقيبة الذي لم يكن العقيد منسجما معه، وقد كشفت عملية الغزو المسلح لمدينة قفصة التونسية (1980) حجم هذه المعارضة المسلحة للنظام التونسي، والتي انضوت تحت لواء اللجان الثورية الليبية وساعدت السلطة الجزائرية في تلك الفترة على دخولها التراب التونسي.
أغلب المعارضات التونسية، بكل اتجاهاتها وتياراتها السياسية، وجدت دعما كبيرا من منظمات حقوقية فرنسية وغيرها
ومن المفارقات التاريخية اللافتة أن الحراك الأبرز لمعارضي بورقيبة، وكان صاحب توجّهات غربية وميول فرنسية، يتخذ من باريس مركزا له، وقد عرفت هذه المعارضة تنوّعا كبيرا ونشطت في البلاد الفرنسية قاطبة، ولا أحد يعرف عددها، إذ يقال إنها تتجاوز العشرة آلاف معارض. وتنقسم هذه المعارضة التونسية في فرنسا إلى قسمين، ماركسي النزعة وغير ماركسي. إذ عرفت فرنسا زخما شديدا للمعارضة التونسية بداية من 1971، وخصوصا في أوساط الطلبة التونسيين الدارسين هناك، وكان من أبرز قادتهم خميس الشماري، ومؤسسو حركة بارسبكتيف. كما احتضنت العاصمة الفرنسية الشيوعيين التونسيين الذين ينتمون إلى الحزب الشيوعي التونسي، المحظور منذ سنة 1963، على إثر المحاولة الانقلابية على بورقيبة سنة 1962. وأصدر هؤلاء صحيفتي الطريق بالعربية والأمل بالفرنسية. أما الماركسيون اللينينيون فقد أصدروا كذلك أشهر صحيفتين معارضتين في الخارج، "العامل التونسي" و"الشعلة".
وفي فرنسا كذلك، نشأت حركة الوحدة الشعبية المعارضة، المكونة من أنصار أحمد بن صالح، وتجربة الستينيات الاشتراكية، وكان من أبرز عناصرها سليمان الدقي، وقد أصدرت هي الأخرى صحيفة الوحدة الشعبية. أما البورقيبي القديم الذي انقلب عليه بورقيبة ليصبح معارضا له، أحمد بن صالح، فكان متنقّلا عبر العواصم الأوروبية، إذ يقال إنه قد تعرّض إلى محاولة اغتيال. ولذلك لم يعرف له مكان محدّد للإقامة. أما محمد مزالي ورفاقه، مثل أحمد القديدي وأحمد بنور، قد استقروا سنوات طويلة في فرنسا. والواقع أن أغلب هذه المعارضات، بكل اتجاهاتها وتياراتها السياسية، قد وجدت دعما كبيرا من منظمات حقوقية فرنسية وغيرها، واستطاعت أن تؤثر في مجرى الأحداث في الداخل التونسي، ولكن انقلاب زين العابدين بن علي على بورقيبة سنة 1987، وما بشّر به من حريات وانفراج وحقوق قد جعل رموزا كثيرة لهذه المعارضة تعود إلى أرض الوطن، لتمارس نشاطا حقوقيا وسياسيا. ولكن النظام سرعان ما تراجع عن وعوده كاشفا وجها قامعا شديد الوطأة على كل معارض. وكانت أبرز حركة معارضة تركت تونس خلال حكم بن علي الهجرة الجماعية لرموز حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي) وأتباعها، لتحتضنهم مرّة أخرى العاصمة الجزائرية، باتجاه سنوات المنفى الطويل في بريطانيا وفرنسا، وقد فتحت أبواب البلاد لهم مع قيام ثورة 14 يناير 2011، التي، والحقّ يقال، بشّرت خلال سنواتها العشر بانفراج كبير في الحقوق والحريات، إذ اعتبر هذا المجال من أكبر مكاسب الثورة وأهمها، من دون إنكار صعوبات التحول الديمقراطي وإكراهاته، في كل التجارب الديمقراطية التي عرفتها بلدان كثيرة.
الأرجح أن السلطة الحاكمة في تونس هي بصدد البحث عن أسلوب يحفظ لها ماء الوجه داخليا وخارجيا
ولكن الأمر تبدّل، وتغير الوضع، بداية من 25 يوليو/ تموز 2021 حيث فعّل الرئيس التونسي قيس سعيد، الفصل 80 من دستور 2014، وأقر الإجراءات التي أصبحت معلومة حلا للبرلمان وتجميدا للمؤسسات الدستورية وتضييقا للحريات لتُحكم البلاد بإجراءات قانونية تتمثل في المراسيم، حيث تحولت هذه الإجراءات إلى مصدر تشريع وحيد، ما غيب، بحكم ذلك، سلطان السلطة التشريعية التي جرى تجميد عملها ضمن صلاحيات الحالة الاستثنائية والخطر الداهم اللذين تمر بهما البلاد، ويؤثران حتما على تسيير الشأن العام على المستوى السياسي، حيث تعتبر هذه الحالة استثناءً، في الممارسة التنفيذية والتشريعية، ليتحوّل رأس السلطة، وهو رئيس الجمهورية، إلى مرتبة المشرّع وصاحب سلطان التنفيذ. ولعل أخطر ما صدر من ترسانة هذه المراسيم المرسوم 54 الصادر في الجريدة الرسمية يوم 16 سبتمبر/ أيلول 2022، ليثير جدلا قانونيا وسياسيا ومجتمعيا واسعا لما تضمّنته فصوله من استعادة لسنن الدكتاتورية في قمع الأصوات والمخالفين، بعد تكييف فصوله الفضفاضة واستعمالها سيفا مسلطا على الجميع، وفق آراء عديد من الأطراف ومنظمات المجتمع المدني. وقد اعتبرت هذه الأطراف أن هذا المرسوم الوحش صيغ داخل الغرف القانونية المغلقة، وأضحى أمرا واقعا، حين فرضته السلطة بما حولته من قانون لصد الجرائم السيبرانية إلى قانون قمع حرية التعبير، وضرب الأصوات المناهضة للسلطة ومكوّناتها. ولم يشمل هذا القانون فئة بعينها، حيث بات الصحافيون والمحللون والسياسيون وناشطو المجتمع المدني والنقابيون والمدوّنون تحت مقصلة المرسوم وما حمله من خطر داهم بعد فتحه أبواب السجون أمام أمناء عامين لأحزاب معارضة وطلبة ومحامين وصحافيين، ليفتح كذلك بابا مشرعا لهجرة معارضة جديدة باتجاه باريس مرة أخرى وغيرها. والمؤكّد أن أعداد معارضي إجراءات قيس سعيّد التي فيها انقلاب على الشرعية وتأسيس لسلطة استبدادية، تتزايد من يوم إلى آخر في أوروبا والخليج، حيث استعاد قادة حركة النهضة مواقعهم التاريخية في الخارج التي عرفوها قبل الثورة.
ختاما، الحديث عن وضع المعارضة التونسية في الخارج وعلاقتها بالسلطة السياسية الراهنة لا يمكن اعتباره نهائيا من حيث النتائج، باعتبار أن للجيوسياسة وقعها ولتأثيرات قوى الضغط في الخارج وزنها، ما قد يفتح الباب أمام النظام الحاكم في تونس لإعادة ترتيب أوراقه وتحديد أولوياته، خصوصا وأن العلاقة بالمعارضة شكلت، وعلى امتداد الأشهر الأخيرة نقطة الخلاف الحادّة بين السلطة السياسية الحالية في تونس وقوى الضغط في الخارج، فهل يقبل الرئيس قيس سعيّد على مرحلة جديدة، ويعيد ترتيب البيت التونسي، وذلك بإشراك أطياف معارضة في القرار السياسي. وهذه الفرضية هي الأقرب إلى الظن بعد أن شوهد أخيرا اجتماع الرئيس قيس سعيّد مع أساتذة جامعيين تونسيين، للتباحث معهم حول طرق إيجاد المخارج الممكنة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وهو مؤشر جديد لتسيير الحكم، لا يعمل الرئيس سعيّد به منذ توليه السلطة.
يمكن اعتبار مسلسل العلاقة بين السلطة السياسية في تونس والمعارضة في الخارج منفتحا على كل السيناريوهات، لكن الأرجح أن السلطة الحاكمة هي بصدد البحث عن أسلوب يحفظ لها ماء الوجه داخليا وخارجيا.