المعارضات السورية .. من أجل كسر الجمود وتجسير الهوّة
شهدت ساحات المعارضات السورية، الفكرية والسياسية، كثافة في طرح الأفكار والتصورات والدعوات إلى التحرّك لإقامة أجسام سياسية تعيد لثورة الحرية والكرامة فعلها وألقها، والعمل على تحقيق أهدافها النبيلة: إخراج سورية من نظام الاستبداد والفساد إلى نظام الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. غير أن معظم هذه الأفكار والتصورات قد خلت من آلية عمل مرشدة، تمنح جمهور الثورة علاماتٍ على بداية الطريق؛ تضيء له النفق المظلم الذي دُفعت إليه الثورة المجيدة، فمعظم ما قيل مكرّر ونمطي، أساسه ثنائية التشهير والندب، التشهير بالنظام وحلفائه والندب على ما آلت إليه الثورة المغدورة التي ضيّعها النظام الدولي والمعارضة الرسمية، وينتهي بدعواتٍ ونصائح عامة، لا تسمن ولا تغني من جوع، كما يقول المثل الشعبي، ما يجعلها وصفةً لمزيد من اليأس والقنوط.
لا يشكل الاكتفاء بالتشهير والندب والدعوة العامة خياراً منطقياً وعملياً، وهو، الخيار المنطقي والعملي، ما تحتاج الثورة إليه لاستعادة توازنها ودورها، بل هو تعبير عن حالة عجزٍ ترتبت على أنماط تفكير نمطية وخلفيات عقائدية جامدة وممارسات بدلالة توجيهات وحسابات راعٍ عربي أو إقليمي أو دولي مع افتقار للحساسية السياسية والحركية، تحت تأثير الرتابة والركود والمراوحة في المكان.
معظم الأفكار والتصورات المقترحة لتطوير عمل المعارضة خلت من آلية عمل مرشدة
يلمس المراقب والمتابع لأوضاع هذه القوى السياسية والشخصيات الوطنية بين سطور الأفكار والتصورات المطروحة أنماط تفكير وخلفيات سياسية محكومة إما بمنطق عقائدي يرى صاحبه في منطلقاته العقائدية الحقيقة الوحيدة ودفّة الخلاص، مع أنها، في الغالب، لم تدخل تجارب واختبارات عملية تؤكد صحتها وصلاحيتها لمعالجة المشكلات التي واجهت الشعب السوري خلال العقود الماضية؛ من القمع إلى الفساد ونهب المال العام والفقر والجوع والتشرّد إلى المحسوبية والتمييز والتزلف والانتهازية؛ حيث بقيت أفكاراً نظرية ترتكز إلى حجج عقلية تنتظر النزول إلى أرض الواقع، لمعرفة جدواها ومردوديتها العملية، أو بمنطق حزبي يرى صاحبه حزبه وقيادته المنقذ والمخلّص مع الركون إلى التبرير والتلفيق والتعسف، دفاعاً عن قرارات ومواقف حزبية غير مفهومة أو غير مقنعة أو خاطئة، أو بمنطق ذاتي، شخصي، يرى صاحبه ذاته المفكر الوحيد والسياسي اللامع وصاحب التقديرات الدقيقة والصائبة، نرجسية فاقعة تجعله يرى نفسه مركز الكون، وما يطرحه البلسم الشافي وما سواه ترّهات وأضغاث أحلام. أنماط تفكير وخلفيات سياسية تتوجها ممارسات ومواقف أساسها "أنا" أو "الطوفان".
انعكست هذه الأنماط الفكرية والخلفيات السياسية سلباً على مستوى العلاقات السياسية، وعلى القدرة على العمل الجماعي المنظم، وعلى واقع مؤسسات المعارضة، ليس في بناها فقط، بل وفي واقعها العملي وفعلها اليومي. وهذا، مع ما يضيفه الارتباط والتبعية لدولة عربية أو إقليمية أو دولية على مواقف القوى السياسية والشخصيات الوطنية اليومية والمباشرة من تأثيرات، وما يرتبه من تبعات على المشهد السياسي: صراع حادّ على قاعدة صفرية، نمط العمل السياسي المعارض وقوالبه، وجعله جسداً بلا روح، وعملاً بلا فعالية أو حصاداً حقيقياً، فالمواقف مسبقة، وردود الأفعال جاهزة، والتفاعل منعدم وخارج التداول.
أنماط تفكير وخلفيات سياسية محكومة إما بمنطق عقائدي أو حزبي ضيّق.
عام 2007، كنا في مكتب الأمانة العامة لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي. كنت ممثلاً للجان إحياء المجتمع المدني فيه، نعد لعقد المجلس الوطني للإعلان؛ وكان لي شرف كتابة ورقة سياسية؛ ولما أنجزتها وزّعت نسخاً منها على بقية أعضاء مكتب الأمانة لقراءتها، استعداداً لمناقشتها في الاجتماع التالي؛ وقد حرصت على معرفة آراء الأعضاء بما كتبت قبل الاجتماع، فمرّرت على بعضهم قبل الاجتماع العتيد؛ وكانت دهشتي عندما سمعت تعليق ممثل حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، حسن عبد العظيم، عليها. لم يعلق على محتواها، وما فيها من تقديرات واستنتاجات وأين أصابت وأين أخطأت، وأين تحتاج إلى تعديل أو إضافة وتطوير، كان تعليقه الوحيد: هل تعاونت أنت وحزب الشعب الديمقراطي، حزب غريمه رياض الترك، في كتابتها. كانت المعركة حاميةً بين الحزبين وقيادتهما على من يُمسك بناصية "إعلان دمشق"، وهو تحت التأسيس والترسيخ، ويوجهه سياسياً وميدانياً نحو أفكاره وبرامجه السياسية والتنظيمية، وكان كل طرفٍ منهما ينظر إلى ما يتم بدلالة هذه المعركة ونتائجها المنتظرة أكثر من النظر إلى جدواه وانعكاسه على نضال المعارضة، وقدرته على تشكيل فارق يجذب قوى المجتمع السوري، ويدفعها إلى الانخراط في المواجهة مع نظام الاستبداد والفساد، تحقيقاً لهدف الإعلان: التغيير الديمقراطي.
تحوّل الصراع بين المعارضات السورية إلى صراع صريح ومعلن ومكشوف وأكثر حدّة ومرارة
هذا المثال حالة معبرة عما يتم الآن في وسط المعارضات السورية والشخصيات الوطنية، ولكن مع فارق فرضته التطورات والظروف، حيث تحوّل الصراع إلى صراع صريح ومعلن ومكشوف وأكثر حدّة ومرارة، فقد أتاح التطور التقني في مجالات النشر والتوزيع عبر الشبكة العنكبوتية، والظهور على شاشات الفضائيات، خصوصاً وأن فضائيات كثيرة تعمل على صبّ الزيت على نار الخلافات والسجالات، وتوظفها لخدمة مواقف دولها في صراعاتها البينية، أتاح فرص الترويج لكل الراغبين، ولكل فكرة مهما كانت طبيعتها ومستواها أو هدفها ووسائلها، فقد منحهم التطور التقني فرص الطرح والدعاية والرد والدفاع من دون حدود، وتتبع سقطات بعضهم بعضاً، وتصيد عثرات وهفوات بعضهم بعضاً وتضخيمها. وفي الوقت نفسه، سلبهم فرص التخفي والتستر والإنكار، حيث وضعهم تحت المجهر، وبات كل ما يفعلونه ويقولونه مرئياً ومسموعاً، يمكن جمعه واستعادته بكبسة زر؛ وجعل نقاط ضعفهم وتقلّب مواقفهم وفجورهم في معاركهم الإعلامية تحت أنظار الرأي العام السوري، المعارض بشكل خاص، حتى بات من الصعوبة بمكان بالنسبة لكثيرين من المعارضين وحواضن الثورة تخيل وجود جدوى أو فائدة ترتجى من قوى سياسية وشخصيات وطنية كثيرة، وأن يروا في متابعة مواقفها وتصوراتها مضيعة للجهد وهدراً للوقت.
ترتبت على المشهد السابق وتركيبة قواه السياسية وممارساته الفعلية تداعيات خطيرة، لعل أولها سيادة حالة انعدام ثقة عميق بين القوى السياسية والشخصيات الوطنية بعضها بعضاً، وبين القوى السياسية والشخصيات الوطنية والناشطين وحواضن الثورة، ما وضع كل الأفكار والتصورات والتقديرات في سلة واحدة، وأضاع فرص الاستفادة منها أو من بعضها، وهي حالةٌ كارثيةٌ بالغة السوء.
فكرة مقترحة
هنا فكرة لكسر الحلقة المفرغة، وتجسير الهوة على أمل كسر الجمود المخيّم بفتح كوّة في الانسداد الراهن من خلال محاولة الاستفادة من الأفكار والتصورات والتقديرات الصائبة من المطروح والذي سيطرح لاحقاً والتقدم خطوات على طريق الخروج من عنق الزجاجة.
للفكرة ثلاثة مستويات: مستوى أول قائم على تشكيل لجنة عمل مصغرة لتنظيم وإدارة حوار فكري وسياسي غير مباشر عبر تأسيس موقع إلكتروني أو صفحة خاصة على "فيسبوك"، ودعوة مثقفي المعارضة وسياسييها للكتابة حول عناوين محدّدة ترتبط بتحديد مفاهيم سياسية حول البرنامج السياسي والاجتماعي للمعارضة وحول سورية المستقبل، كما يراها أبناؤها، وسبل تحقيق أهداف ثورة الحرية والكرامة، وتوزيع عنوان إلكتروني على القوى السياسية والكتاب والمثقفين ترسل إليه المقالات والتعقيبات، وتحديد معايير للنشر، مثل الجدّية والاتزان والمسؤولية الأخلاقية والوطنية، ونشر المادة المقبولة من دون اسم كاتبها، كي تُستبعد الحمولات الشخصية والخلافات المسبقة عن جو النقاش. المستوى الثاني، تطلب اللجنة من القوى السياسية والمثقفين والناشطين التعقيب عليها، أيضاً وفق معايير الجدّية والاتزان والمسؤولية الأخلاقية والوطنية، ونشر التعقيبات المقبولة من دون أسماء كذلك، لتجنّب ردود وسجالات حزبية وشخصية عقيمة، مع تحديد فترة قبول التعقيبات. المستوى الثالث، تحيل اللجنة النص والتعقيبات على شخصيات مختارة من السياسيين والمثقفين لتحريرها ونشرها، بعد إضافة أسماء الكاتب والمعقبين والمحرّرين، كوثيقة من وثائق المعارضة على الموقع للاطلاع على الصيغة النهائية.
انعدام ثقة عميق بين القوى السياسية والشخصيات الوطنية بعضها بعضاً، وبين القوى السياسية والشخصيات الوطنية والناشطين وحواضن الثورة
ومع الوقت تكون لدينا نصوص تغطي أغلب المفاهيم السياسية والاجتماعية، مع تقديرات وتصورات لخطط عمل، يمكن جمعها وطبعها مادة فكرية وسياسية تثقيفية تعبر عن مواقف فكرية وسياسية للمعارضة من قضايا بلدها، ونشرها لكي تكون وسيلةً لتعّرف الشعب السوري على المعارضة وأفكارها وبرامجها السياسية وحلولها العملية، وقاعدة للحكم على مواقفها وممارساتها اللاحقة والمحاسبة عليها في ضوئها ووسيلة لتشكيل رأي عام حول أهداف الثورة المجيدة، ولاستقطاب تأييد شعبي والتزام جماهيري بهذه الأفكار والبرامج والخطط، ولكي تكون أرضيةً لعمل سياسي ونضالي مشترك لقوى المعارضة.
يمكن للقوى السياسية والشخصيات الوطنية القيام بجهدٍ موازٍ لعمل لجنة العمل الفكري، أساسه تشكيل لجان خاصة داخل القوى السياسية، وتجمعات صغيرة من الشخصيات الوطنية لدراسة المواضيع المطروحة وإخضاعها لعملية عصف فكري جماعي، وصياغة محصلة النقاشات الداخلية في ورقة، أو في رد على ورقة ما يسمح بتحريك الأوساط الراكدة وتنشيط العقول الساكنة، ورفع المعنويات الهابطة، ونشر الأمل بين حواضن الثورة ومناصريها.
بطبيعة الحال، يمكن لهذه الجهود المنظمة والمشتركة توليد تقاطعاتٍ وتطابقاتٍ فكرية وسياسية، تقود إلى فعاليات عامة موازية، وإقامة تشكيلات تنظيمية وحلقات فكرية تنشّط المعارضة ككل، والقوى السياسية والشخصيات الوطنية كل على حدة، فالانخراط في نقاش فكري عام يستدعي بالضرورة الدراسة؛ والدراسة تستدعي البحث والقراءة؛ والقراءة تستدعي التنظيم والتخطيط؛ والتنظيم والتخطيط يستدعي من القوى السياسية إشراك الكوادر في نشاطاتٍ عامة وخاصة من القراءة والدراسة والبحث، وحضور محاضرات تثقيفية للوصول إلى سويةٍ مقبولةٍ من الخبرات والقدرات، تسمح بالمشاركة في النقاشات الدائرة أو التي ستدور بدفع من لجنة العمل الفكري وموقعها الإلكتروني الاختباري.
ليس صعباً على قوى المجتمع السوري اجتراح حلولٍ لحالة الجمود الراهنة، وملء الفراغ بعمل فكري تأسيسي
في حديث محجوب عمر (رؤوف عبد الملك نظمي) عن تنمية قدرات كوادر الأحزاب والقوى السياسية، حدثني عن تجربتهم في الحزب الشيوعي المصري في خمسينيات القرن الماضي، حيث خضعت قيادة الحزب لدورة تثقيفية شاملة مكونة من محاضرات في السياسة والاقتصاد والإعلام، وعن المجتمع المصري، بنيته الاجتماعية والثقافية والطبقية وقضاياه العامة ومشكلاته الحادّة والضاغطة؛ ركز على عشر محاضرات لفؤاد مرسي في الاقتصاد، قال إنها منحت المشاركين قدرةً على فهم آليات عمل الدورة الاقتصادية، وأثرها على السياسة والمجتمع، خرجت قيادة الحزب من الدورة بنشوة فكرية وروح معنوية عالية واندفاع شديد للعمل. وهذا تم تطبيقه مع المستويات الأدنى فالأدنى، فأحدث نقلة فكرية وسياسية ونضالية.
ليس صعباً على قوى المجتمع السوري بقواه الحية التي أطلقت ثورة الحرية والكرامة تحفيز القوى السياسية والشخصيات الوطنية، بالتشجيع والمشاركة الفعالة بالتعقيبات، على اجتراح حلولٍ لحالة الجمود الراهنة، وملء الفراغ بعمل فكري تأسيسي، لا يصوغ أوراقاً سياسية فقط، بل ويطلق طاقات إبداعية تمهد لعمل سياسي وتنظيمي أكثر انسجاماً ورسوخاً ومردودية، فالتطلع نحو مستقبل أفضل يعني "الانتقال من التأمل إلى العمل"، والعمل بدلالة الإنجاز مصهر لفرز الغثّ من السمين من ما طرح وسيطرح ووضع المعايير والمحدّدات الفكرية والسياسية لانطلاقةٍ جديدةٍ تسمح بوضع القدم على طريق الألف ميل.
أدرك أن الخطة شاقة وطويلة، وظرف السوريين ومعاناتهم مع القتل والتدمير والتعفيش والنزوح واللجوء لا يسمح كثيراً بترف الانتظار، ولكن الحكمة الشعبية تقول "للضرورة أحكام"، فوضع المعارضات يستدعي طريقاً كهذا، وهذا مع تطلعنا أن تكون للفكرة نتائج إيجابية على صعيد التأسيس لانطلاقة سياسية ناضجة، وتخريج كوادر وكفاءاتٍ ستلعب دوراً مؤثراً في سورية الجديدة.