المرأة التي فقدت عقلها

06 ديسمبر 2021

(صفوان داحول)

+ الخط -

لسببٍ غامضٍ لا تدركه، قرّرت المرأة التي تربّت على صوت فيروز تستفتح به صباحاتها أن تكفّ عن هذا الطقس الذي مارسته سنين طويلة، لعلها أرادت التجرّد من عتادٍ جماليٍّ خدّاع لازمها طويلاً، ولم يخفّف من وقع ما يدورعلى أرض الواقع من قباحات رجل ثمانيني ينزع جهاز الأكسجين عن زوجته المريضة طريحة الفراش. ظلّ يراقبها بهدوء، حتى سكن جسدها تماماً قبل أن يتصل بالشرطة، ويسلّم نفسه، معترفاً بما فعل من دون إبداء أي علامات ندم، كما أكّد الجيران الذين شاهدوا رجال الشرطة يقتادونه مكبّلاً، وهو يكاد يجرّ خطاه. أفاد في التحقيق بأنّه أقدم على فعلته رحمة بزوجته، لأنّه وحيد عاجز عن الاعتناء بها. أودع العجوز سجناً في جنوب العاصمة تمهيداً لمحاكمته. 
استمعتْ إلى تفاصيل الخبر وقد اعتراها الذهول. أخذت تفكّر في أمر المسنّ الذي سيقضى شتاء بارداً  طويلاً في مهجع كبير يفتقر الى الشروط الصحية بين قتلة ومجرمين أصحاب سوابق. لكن، هل هو حقا عجوزٌ خرف فاقد الأهلية يستحق العلاج أم إنّه مجرّد قاتل متجرّد من الرحمة، استثمر شيخوخته ذريعةً للخلاص من العقوبة؟ هل هو من معتنقي فكرة الموت الرحيم الذي يوفر على المريض احتضاراً طويلاً شاقاً نهايته معروفة؟ إذا كان الأمر كذلك، لماذا لم يُقدِم على الانتحار، وهو نفسه، كما ثبت في تقرير الطبيب، يعاني من جملة أمراض مزمنة، لن تمهله طويلاً. أخذ الخبر مساحة كبيرة من تفكيرها، تملّكتها الحيرة، ولم تتمكّن من جزم موقفها بين الإدانة والتعاطف. 
حاولت نسيان الأمر، لأنّ افتتاح النهار بقصّة مروّعة كهذه ليس بالأمر الحكيم. ثم إن الأمر لا يعنيها، إذ لم يكلفها أحد بإبداء رأي أو اتخاذ موقف. شغلت نفسها بمتابعة وصْفاتٍ يعدّها الشيف أبو جوليا على منصته في "يوتيوب" والتي يتابعها ملايين. شاب غزّي مقيم في لندن يتميز بالعفوية وخفة الظل. طبّاخ بارع، لديه طريقته الخاصة الجذّابة المتميزة في تقديم وصْفاته في أجواء تبعث على السعادة. انتقلت بعدما هدأت روحها إلى متابعة مستجدّات الصراع بين نقيب المهن الموسيقية هاني شاكر ومغني المهرجانات، أصحاب الألقاب العجيبة، وقد أصدر شاكر قراراً بمنعهم من الغناء في مصر، فاستضافتهم كلٌّ من تونس والسعودية، وحققوا نجاحاً منقطع النظير. وما زالت الحرب مستعرة بين الطرفين، وقد انهالت الانتقادات اللاذعة على هاني شاكر، بسبب أسلوبه القمعي المتنمّر، وحصل الأولاد على دعم شعبي كبير حتى ممن يرفضون هذا النوع من الأغاني التي لا تخلو من ابتذال. 
أغلقت صاحبتنا الكومبيوتر، بعدما امتلأ رأسها بكمٍّ هائل من معلومات غير المفيدة. توجهت إلى المركز الرياضي، آملة في الحصول على بعض الاسترخاء. كان المركز مكتظاً بالنساء البدينات اللواتي لم يتوقفن لحظة عن الثرثرة. انبعثت من مكبرات الصوت أغانٍ غربية، ذات موسيقى سريعة وكلمات نابية فجّة لم تخدش حياء أيّ منهن كونها بالإنكليزية. خرجت من المركز مغتاظة، والعرق يتصبّب منها. ضبطت نفسها وهي تدندن بصوت خفيض أغنية فيروزية عتيقة تحتفل بالحب والحياة والجمال. أضحكتها المفارقة، ولم تمنع نفسها من القهقهة غير مباليةٍ بنظرات المارّة المستريبة. انتبهت إلى شابٍّ أرعن يحاول خلسةً تصويرها في مقطع فيديو يصلح للتندّر، ويغدو في ساعات "تريند" يحقق أعلى المشاهدات على مواقع التواصل عن امرأة مجنونة تمشي في إحدى ضواحي المدينة الهادئة، وتقهقه بلا سبب. اندفعت نحو الشاب. انتزعت "الموبايل" من يده، ألقته على الأرض وأخذت تدوسُه بقوة حتى تحطّمت شاشته. مضت في طريقها غير عابئة بشتائمه وتهديداته.
وفي المساء، اكتسح المواقع مقطعٌ تبادله المواطنون بكثافة على "واتساب"، فيديو طريف لامرأة  فقدت عقلها، وأخذت تهاجم المارّة وتسلبهم هواتفهم وتحطّمها من دون أن تتوقف عن القهقهة!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.