"المتعاونون": عن "الحركيين" السودانيين
كان الكاتب السوداني محمد عثمان إبراهيم قد سبق غيره في تحذير "المتعاونين" في بلاده مع المليشيا التي تخوض حرباً ضد المواطنين السودانيين، من مواجهة المصير، الذي واجهه "الحركيون" في الجزائر. أعجبني هذا التشبيه، فالحركيون الجزائريون، الذين ارتضوا أن يكونوا جزءاً من منظومة الاحتلال الفرنسي، كانوا يظنّون أنهم بذلك يراهنون على الأقوى، ولم يخطر ببالهم أن تنجح المقاومة الجزائرية في إجبار الغزاة على الانسحاب من بلادهم.
لم يختلف مصير "الحركيين" الجزائريين عن مصير الذين تعاونوا مع المحتل بيادق ومُخبرين على مر العصور، فلا التاريخ رحمهم ولا الدول التي عملوا تحت خدمتها، احترمتهم. انتهى الأمر بهم للعودة إلى فرنسا والعيش في معسكرات غير إنسانية وظروف غير لائقة، مع رفض الفرنسيين إدماجهم بشكلٍ يحفظ لهم كرامتهم. يعيد هذا إلى الأذهان صورة قريبة للمتعاونين الأفغان مع الأميركيين، أولئك الذين تركوا لمصيرهم، ما دفع مئات منهم إلى التعلق بجناجي (وبدن) الطائرة الأميركية المغادرة في ما يشبه الانتحار.
هناك سؤال مطروح قبل مناقشة مصير "المتعاونين" السودانيين: ما الذي جعل مواطناً سودانياً ينحاز لمليشيا أوغلت في القتل وسرقة الممتلكات والاغتصاب؟ علماً أن هذه التهم التي يحاول المتعاطفون مع المجرمين والمتواطئين معهم غضّ الطرف، أو التقليل منها، ليست مجرّد اتهامات، وإنما جرائم شهدت عليها دول كثيرة ومنظمّات حقوقية دولية وآلاف المواطنين، الذين لا يمكن تجاهل شهاداتهم كلها. أكثر من ذلك، كانت الميليشيا نفسها، للمفارقة، تقوم بتصوير (وتوثيق) جرائمها من قتل واقتحام لمنازل المدنيين، بل حتى الاغتصاب. كان ذلك كثيراً في بداية أيام العدوان، قبل تنبيه الأفراد، ربما بواسطة الممولين، لضرورة التوقف عن هذا، لأن مثل هذه الفيديوهات خطرة وقد تشكل دليل إدانة دامغة.
السبب الأول الذي كان يدفع إلى ما يسمّى "التعاون"، كان يتعلق بالرغبة في الفوز بالمال السهل، حيث كان المقرّبون من محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حتى في فترة ما قبل اندلاع الحرب، يعرَفون أنهم من المحظوظين مادياً، سواء كانوا من العسكريين، الذين كانت امتيازاتهم أعلى من نظرائهم "النظاميين"، أو كانوا من المدنيين. تدفق المال أكثر في مرحلة ما بعد الحرب، فكسبت المليشيا ولاء كثيرين مستخدمة بعضهم لتحسين صورتها وإطلاق حرب إعلامية ضد من يحاربها، فيما استفادت من آخرين، مقاتلين أو مرشدين إلى بيوت القادة أو إلى البيوت التي يمكن أن يُستفاد من اقتحامها للحصول على أموال أو سيارات.
هناك من انحازوا للمليشيا بسبب معاناتهم من الحقد والحسد، ورغبتهم في زوال نعمة من يرون أنهم يرفلون في المتعة والثروة
السبب الآخر ما جاء أعلاه، أن بعضهم ظن أن إعلان الولاء لحميدتي هو رهان على الطرف الأقوى، الذي يحظى بالمال والسلاح الكافي، والذي يتوزع جنوده في كل المناطق الإستراتيجية. تعمّق هذا الرهان حينما اتضح أن الأمر لا يتعلق بصراع محلي، بقدر ما أنه مشروع تشارك فيه دول جوار وقوى ذات تأثير. أكّد ذلك للمتعاونين والمتعاطفين أنهم منحازون لطرف يحظى بدعم "المجتمع الدولي، الذي ظل يساعد على الإفلات من العقاب عبر منح المجرم شرعية والإصرار على مساواته بالجيش، الذي "يجب" عليه، وفق منطق أصحاب المصلحة الدوليين، أن يتفاوض، وأن يقتسم السلطة مع المتسبّب في مأساة ملايين السودانيين.
بجانب هذا، هناك أسباب تأتي في مرتبة أقلّ تتعلّق بأن بعض هذه العناصر مجبرة على التعاون لخضوعها للابتزاز، سواء بشكل شخصي، أو عبر خطف أحد المقرّبين، أو من خلال استغلال الإدمان على المخدّرات والمساعدة على توفيرها في مقابل الإدلاء بمعلومات أو التجسّس، وهي حالات كانت تمثل أحد تفسيرات تسهيل بعض أبناء الحي مهمة اقتحامه واستهداف أشخاص فيه.
السياسة وحدها لا تكفي للتفسير، ففي بعض الحالات، تجب الاستعانة بعلم النفس أيضاً، فالأكيد أن هناك من انحازوا للمليشيا بسبب معاناتهم من الحقد والحسد، ورغبتهم في زوال نعمة من يرون أنهم يرفلون في المتعة والثروة. ذلك المشروع الفوضوي، المبني على نزع ثروات الجميع وإذلال كل من كانت له مكانة في المجتمع، على اعتبار أن هذه المكانة جاءت على حساب إفقار آخرين، كان يجد هوى لدى كثيرين، فعلى الرغم من أن دعاية المليشيا كانت تقوم على محاربة "الفلول"، إلا أن الجميع، بمن فيهم مطلقو هذه الدعاية أنفسهم، كانوا يعلمون أنهم لا يخصون فصيلاً بعينه ولا يستهدفون جماعة معينة، وإنما تشمل جرائمهم وانتهاكاتهم الجميع.
بقاء المجموعة الفوضوية والعنصرية جزءاً من تركيبة السلطة المستقبلية في السودان الضمانة الوحيدة لسلامة "المتعاونين"
بعد أن حُسم الأمر لصالح الوطنيين الجزائريين كان "الحركيون" في وضع لا يُحسدون عليه، حيث كان بقاؤهم في البلاد يمثل تهديداً لحياتهم. واليوم يخشى المتعاونون السودانيون على مستقبلهم في حالة انهيار المليشيا وانسحاب مرتزقتها، الذين جاء الآلاف منهم من خارج الحدود. الحسابات الأولية كانت مبنية على تجارب السماح والغفران السابقة، التي كان يتم فيها التجاوز عن جرائم المعارضين المسلحين، بل والعمل على إعادة إدماجهم في البنية السياسية والعسكرية للدولة. حدث هذا مع أكثر من فصيل، لكن ما فات على أصحاب هذه الحسابات أن ما حدث هذه المرّة مختلف، وهو أكبر من طاقة السوداني الطيب للغفران. ما يتّضح حالياً أنه، وحتى ولو جرى الوصول إلى اتفاق تلتزم به الحكومة يضمن سلامة المقاتلين والمتعاونين، إلا أنه سيكون من الصعب إقناع المواطنين العاديين، الذين فقدوا مدّخراتهم أو جرى الاعتداء على أعراضهم بواسطة أولئك المحاربين، بقبول هذه العناصر المريضة ضمن النسيج الاجتماعي الذي انتهكوه.
يمكن أن تفسّر هذه النقطة إصرار المراهنين على المليشيا على التفاوض المفضي إلى إعادة الشرعية لها، كما أنها تفسّر قول بعضهم إنه لا يتمنّى أن ينتصر الجيش بشكل ساحق، حتى لا يفرض شروطه على الجميع. في الحقيقة، بقاء هذه المجموعة الفوضوية والعنصرية جزءاً من تركيبة السلطة المستقبلية في السودان هو الضمانة الوحيدة لسلامة "المتعاونين".