اللغة العربية ودرس ألماني

24 سبتمبر 2014

مصحف من القرن الرابع عشر (Getty)

+ الخط -

موجز الخبر أَن صحافياً بريطانيّاً توجّه، الأسبوع الماضي، إلى وزير الخارجية الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، بسؤالٍ في مؤتمر صحافي في برلين، وطلب منه الإجابة باللغة الإنجليزية، غير أن الوزير ردَّ عليه، بأنه لن يجيب بغير الألمانية، "لأنه ألماني، ويتحدث في ألمانيا". .. تذكّرني هذه الواقعة بدهشتي لمّا تلا أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني السابق، علي لاريجاني، مداخلته أمامنا في منتدى كبير في دبي، قبل سنوات، بالفارسية، وهو الذي يعرف الإنجليزية (وربما العربية)، وليس من أحدٍ من الحاضرين (كان منهم رفيق الحريري ومحمد البرادعي)، على الأرجح، يعرف الفارسية. ويذكّر رد الوزير الألماني، أيضاً، بغضبة الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، لمّا خرج من قاعة اجتماع قمة أوروبية في بروكسيل، في 2006، لما بدأ فرنسيٌّ، يترأس تكتل رجال أعمال أوروبي، يتحدث أمام المؤتمرين بالإنجليزية، فسأله شيراك عن سبب عدم حديثه بلغته الفرنسية، فأجابه إن الإنجليزية هي "لغة البزنس"، فلم يحتمل الرئيس ما سمع وما رأى، فغادر، مع وزير خارجيته، الاجتماع.
هو الكلام التقليدي إيّاه، ينفع استدعاؤه، هنا، في التعقيب على ما بادر إليه شتاينماير، عن اعتزاز قادة الشعوب المتقدمة، ذات الهويات غير المأزومة، بلغة أَوطانها، كما ينفع استدعاء العظة إياها، عن أهمية تمسك الأمم بتعبيراتها القومية والثقافية، مع وجوب الانفتاح على العالم ولغاته وثقافاته. ولكن، ليس تحصيل الحاصل هذا مقصد هذه السطور، بل هو التأشير إلى ما بلغه استخفاف العرب بلغتهم، في بلدانهم، على الرغم من كل الإنشاء المدرسي الغزير حوالينا، عن لغة الضاد، لغة القرآن الكريم، وعلى الرغم من بقاء قصيدة حافظ إبراهيم في بعض المناهج العربية عن "لغتنا الجميلة"، وهي لغةٌ تقول عن نفسها في القصيدة إنها "البحر في أحشائها الدر كامنٌ".
بنوك ومؤسسات وهيئات ودوائر وشركاتٌ، خاصة وحكومية، عربية، ولا سيما في دول الخليج، تخاطب جمهورها وموظفيها وزبائنها، في مراسلاتها الداخلية والخارجية، بالإنجليزية، وإذا عنَّ لك أن "تتفلسف"، وتسأل عن دواعي هذه الممارسة (الحضارية؟)، يباغتونك باستهجانٍ يُشعرك بحرجٍ من تخلفٍ فيك. وقد عملتُ في مؤسسة إعلامية في بلد خليجي، صفتها عربيةً جزءٌ من اسمها، سألتُ فيها عن "سر" كتابة رسائل الإدارة إلينا، نحن الموظفين، بالإنجليزية، فقوبل سؤالي باستغرابٍ كثير، ولولا شيء من الحياء، لنعتني من سألتُ بالحماقة، عافانا الله وشافانا.
تتالت مبادراتٌ محمودةٌ في السنوات الأخيرة، في بلدانٍ عربية غير قليلة، لإنقاذ راهن اللغة العربية بين أبنائها من تردّيها الحادث والمستمر، ويمكن التثنية، مثلاً، على جهود مؤسسة الفكر العربي (مقرها بيروت) في هذا الشأن، وعلى دراساتٍ تشخّص هذا الحال وتوصي بعلاجاته، نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وتوازت تلك المبادراتُ مع مقررات قممٍ عربية (دمشق والدوحة مثلاً) ألحّت على هذه القضية، ومع تشريعاتٍ وقراراتٍ حكوميةٍ ملزمةٍ في هذا الخصوص، استحدثت في غير بلد (الإمارات مثلاً)، غير أنه صار قوياً إلى مستوى شديد الخطورة، شعور ملايين الشبان واليافعين العرب، بأن لغتهم لغة متخلفين، والتعبير بها يقلل من مكانتك الاجتماعية، مع أن عديدين منهم ليسوا على معرفةٍ مكينةٍ بالإنجليزية، ما يعدُّ من أسباب تفشّي لغة "العربيزي" التي تخلط العربية الركيكة بالإنجليزية المضحكة في عواصمنا. أما حديث مسؤولين عرب بالإنجليزية في مؤتمراتٍ ومنتدياتٍ في بلدانهم، فحدّث ولا حرج.
القضية استراتيجيةٌ تماماً، والحديث عنها يتشعب، وأوجه العطب بشأنها عديدة، منها ضعف عديدين من مدرسي اللغة العربية للتلاميذ، ومنها، ما جاء في دعوى قضائية رفعها الراحل عبد الوهاب المسيري، (لا ينسى أنه أستاذ جامعي للأدب الإنجليزي)، على حسني مبارك، بسبب مسؤوليته عن بؤس حال اللغة العربية في مصر. ... شكراً، سيد شتاينماير، ذكّرتنا بتلك الدعوى، وبأحوال العربية بين أبنائها.


 

 

 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.