اللاجئون السوريون .. عودة إلى معازل
ربطت معظم التغطيات والتعليقات على إعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مشروعاً تركياً لإعادة مليون لاجئ سوري إلى الأراضي السورية، الإعلان بالانتخابات الرئاسية التي ستُنظَّم في شهر يونيو/ حزيران 2023، بعدما فتحت أحزاب المعارضة الملف، وربطت كلّ المشكلات الاقتصادية والمعيشية والخدمية بوجود اللاجئين، ووعدت بإعادتهم إلى سورية خلال عام إذا اختارها الناخبون. وغرقت التغطيات والتعليقات في مناقشة فرص نجاح المشروع والعقبات التي تقف في طريقه، مثل المدة القصيرة والكلفة المالية المرتفعة والوضع الأمني غير المواتي والموقفين، الإقليمي والدولي، من المشروع، وربطت نجاحه بالحل السياسي، من دون تعمّق في طبيعة المشروع وخلفياته السياسية.
لا تشكّل الفرضية المذكورة أعلاه، على وجاهتها، سبباً كافياً لإعلان المشروع العتيد، وفي هذا التوقيت بالذات؛ فانتشار دعاية أحزاب المعارضة بشأن مسؤولية اللاجئين عن البطالة وغلاء المعيشة والتضخم الصاعد، بلغ قرابة الـ 70%، وارتفاع الأسعار المتواتر، الذي دفع فئاتٍ اجتماعيةً عديدةً إلى حافّة العجز عن توفير احتياجاتها اليومية، سينعكس سلباً على فرصة الرئيس التركي في الفوز بها، لكنّه لن يكون حاسماً في تحديد نتيجة الانتخابات، فالوقت الذي يفصلنا عن موعدها بعيدٌ نسبياً، ما يتيح للنظام التركي الردّ على حملة أحزاب المعارضة واحتواء مفاعيلها، وعكس نتائجها لمصلحته عبر العمل على جذب استثماراتٍ خارجيةٍ وتوفير مناخ لجعل تركيا مقصداً للسياح الأجانب؛ والحدّ من البطالة ولجم التضخم؛ وهذا ما تحاوله عبر تطبيع العلاقات مع دول الخليج العربية ومصر وإسرائيل. وهذا بالإضافة إلى حالة الاطمئنان التي يشعر بها النظام التركي في ضوء فشل أحزاب المعارضة في الاتفاق على مرشّح مناسب، يمتلك فرص الفوز لمواجهة الرئيس أردوغان في هذه الانتخابات؛ ناهيك أنها ليست متفقةً على برنامج سياسي واجتماعي موحد؛ وتجربتها في الحكم لا تشجّع الناخبين على التصويت لها في ضوء الفشل الاقتصادي والعجز في الميزان التجاري والبطالة والفساد الذي شهدته البلاد خلال فترة حكمها. وذلك مع العلم أنّ النظام التركي سبق له التحرّك إقليمياً للاتفاق على إعادة اللاجئين قبل موعد الانتخابات بفترة طويلة، كان وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، قد أعلن في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2021 أنّ بلاده اتفقت مع أربع دول مجاورة على ضرورة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم "بشكل طوعي".
مشروع لا صلة له باللاجئين السوريين وبعودتهم الآمنة إلى وطنهم، إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم، ويفرض واقعاً سكانياً وسياسياً متفجّراً
تربط قراءة هذه المقالة إعلان مشروع إعادة مليون لاجئ سوري إلى الأراضي السورية بهدف واحد ووحيد: مواجهة المشروع الكردي باستغلال اللحظة السياسية الراهنة، التي يجد فيها النظام التركي فرصةً سانحةً للقيام بهجوم سياسي وعسكري شامل عليه، فالاهتمام الدولي والإقليمي مركّز الآن، إلى فترة غير قصيرة، على الغزو الروسي لأوكرانيا ونتائجه وتأثيراته في توازن القوى؛ وفي النظام الدولي القائم؛ وفي مصالح الدول القريبة والبعيدة، والكلّ يسعى لتحقيق مكاسب وتجنّب الخسائر، وتوظيف المعطيات السياسية والجيوسياسية والعسكرية التي تمتلكها تركيا، الدولة، في كسب موافقة الدول على المشروع وتبعاته وتأثيراته البعيدة، أو على الأقل سكوتها عنه، إن لم يكن مساهمتها في تمويله. وقد ساهمت قطر والكويت في تمويل أجزاء من المشروع، تعهّدت قطر بتمويل إنشاء مائتي ألف منزل، فتركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، والتي تمتلك ثاني أكبر جيش فيه، بعد الولايات المتحدة، تطل على البحر الأسود، ساحة المواجهة الساخنة بين التحالف الغربي وروسيا حول أوكرانيا، بساحل طويل، وتتحكّم بحركة مرور السفن الحربية والتجارية منه وإليه خلال الأزمات والحروب، من خلال سيطرتها على مضيقي البوسفور والدردنيل، وفق اتفاقية مونترو، ولها علاقاتٌ متينةٌ مع طرفي الصراع، ما سمح لها بالتحرّك بالتوسّط بين روسيا وأوكرانيا، من جهة، والعمل على التأثير بمسار المعركة الدائرة بمدّ أوكرانيا بالأسلحة والمعلومات الاستخبارية والمساعدات الإنسانية وإغلاق المضيقين بوجه السفن الروسية، والمجال الجوي بوجه الطائرات أيضاً، من جهة ثانية، ما جعلها قبلة للوفود الغربية الباحثة عن تعزيز إجراءاتها ضد روسيا، ودفع تركيا نحو الانخراط أكثر في عملية تطويق روسيا وعزلها، وفُتح لها الباب واسعاً للحصول على تنازلاتٍ، غربية تحديداً، حيث عدّلت فرنسا موقفها من الرئيس التركي؛ وجرى بعث مشروع إنتاج منظومة صواريخ "سامب - تي"، مع إيطاليا وفرنسا، بديلاً للصواريخ الروسية إس 400. وتناست الإدارة الأميركية قضية صواريخ إس 400 الروسية التي اشترتها تركيا؛ وسحبت تأييدها لمد خط أنابيب غاز من الحقول الإسرائيلية إلى أوروبا عبر قبرص واليونان، المعروف إعلامياً بـ"إيست ميد". وتحرّكت مع الكونغرس لإتمام عملية بيعها طائرات إف 16، وخفّفت من دعمها اليونان في خلافها معها.
قال وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، إنّ بلاده لن تسمح بإقامة "ممرّ إرهابي" على حدودها الجنوبية
وكسرت تركيا الجمود في العلاقات مع الإمارات والسعودية، وعاد الدفء إلى علاقاتها مع إسرائيل، وتجدّد الحديث عن مد أنابيب لنقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا عبر أراضيها، ما أشعر النظام التركي بالنشوة والعنفوان، وشجّعه على إطلاق عملية "قفل المخلب" ضد حزب العمال الكردستاني التركي في كردستان العراق، والتلويح بعملية عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شرق الفرات، لتشكّل ضربة مكملة لعملية "قفل المخلب"، وإعلان مشروع إعادة مليون لاجئ سوري إلى الأراضي السورية، عبر إنشاء قرى وبلدات على طول الشريط الحدودي مع سورية، في مناطق "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام"، داخل المناطق ذات الأغلبية الكردية وبينها، ما يعني إحداث تغيير في تركيبة المنطقة سكانياً، وإنهاء مبرّر المطالب الكردية في حكم ذاتي أو فدرالية، فالنظر في جغرافية المشروع والقرى التي ستقام لاستقبال اللاجئين في الباب وأعزاز وجرابلس وتل أبيض ورأس العين، يشير، من دون لبس، إلى الهدف الرئيس لهذا المشروع، وهو تعريب هذه المناطق وسحب الذرائع الكردية ومطالبها السياسية، فتجهيز بنية تحتية وفوقية، خدمية وصحية وتعليمية (تم تشغيل ثمانية مستشفيات عامة، و106 مراكز صحية، و33 مستشفىً خاصاً، و42 محطة خدمة صحية للطوارئ، و10 مركبات صحية متنقلة، و76 سيارة إسعاف، لخدمة سكان المناطق، وتجهيز 1429 مدرسة للأطفال، 26 منها حديثة البناء، بينما لا تزال 48 مدرسة قيد الإنشاء، يتعلم فيها 349 ألفاً و762 طفلاً سورياً)، وتوفير فرص عمل؛ الحديث عن توفير 50 ألف فرصة عمل، وإجراء دورات تدريب مهني وتقديم قروض صغيرة ميسّرة للبدء بمشاريع صغيرة وإيجاد فرص عمل، وجعل التجمّعات السكنية المقرّر إنشاؤها مكتفية ذاتياً، لجهة البنية الاقتصادية التحتية "انطلاقاً من الزراعة وصولاً إلى الصناعة" وفق إعلان الرئيس التركي، سيجعل المواقع (13 موقعاً) بيئة صالحة لإقامة مستقرة وآمنة، على أمل أن تصبح دائمة، خصوصاً إذا حظيت بمباركة روسيا والنظام السوري، الذي سيجد فيها فرصة للتخلص من تبعات احتياجات الملايين في مجالات السكن والصحة والتعليم وفرص العمل، من جهة، ومباركة خطة تتقاطع مصالحه فيها مع المصلحة التركية في رفض المطالب الكردية وحلها بالتفاهم والتراضي، من جهة ثانية. وقد أكّد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، هذا الهدف بقوله إنّ بلاده لن تسمح بإقامة "ممرّ إرهابي" على حدودها الجنوبية.
يعتبر المشروع امتداداً لفكرة المنطقة الآمنة التي تبنّتها أنقرة منذ عام 2012، والتي انطلقت بالأساس لمواجهة المشروع الكردي الذي كانت قد بدأت إرهاصاته. وقد جدّد الرئيس أردوغان عام 2020 الدعوة إلى تأسيسها، وقد أضحت، وفق النظام التركي، راهنة في ضوء تعمق الالتزام الأميركي بالإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، من جهة، وممكنة، سياسياً وجغرافياً، وفق معطيات اللحظة السياسية الراهنة، من جهة ثانية. وهو مشروعٌ تركي بالكامل، ولا صلة له باللاجئين وبعودتهم الآمنة إلى وطنهم، إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم، ناهيك أنه يفرض واقعاً سكانياً وسياسياً متفجّراً، إذ يعيش سكان هذه المناطق تحت سياط فصائل سيئة تمارس النهب والتعدّي على حريات المواطنين وأملاكهم وأرزاقهم، وحيث سيحاصر الكرد بالعرب، ويبقي المنطقة في حالة صراع مفتوح وعرضة للاهتزاز وعدم الاستقرار، ويحوّل، هو والتحرّك الإيراني لتغيير التركيبة السكانية، سورية إلى معازل هوياتية متباعدة ومتنابذة، علماً أنّه لا يصلح لحلّ القضية الكردية في تركيا، بل يمدّد في عمر الصراع ويزيد الخسائر والأحقاد.