الكرسي الأردني وهذه المصادفات
تعقيباً منه على موجات التهكّم والسخرية التي نشط فيها أردنيون كثيرون في وسائل التواصل الاجتماعي على قرارات حكومته التي تتالَت في رفع الأسعار، قال رئيس الوزراء الأردني الأسبق، عبد الله النسور (أكتوبر/ تشرين الأول 2012 – مايو/ أيار 2016)، إن من منجزاته رفعَه مستوى النكتة بين الأردنيين. ... ولمّا كان الشائع عن الأردنيين أنّهم متجّهمون ولا يُؤثرون الضحك، فإن شواهد غير قليلة تؤكّد أنّ هذه أزعومة، من جديدها ما يرُمى به، منذ أيام، من تنكيتٍ يهزأ به، أكبرُ كرسي في البلد، بل وفي المنطقة العربية، المقرّر أن تعرضه غرفة صناعة عمّان في أوتوستراد الزرقاء، طوله سبعة أمتار وعرضة ثلاثة أمتار وعمقه ثلاثة أمتار. فقد سأل الساخرون عن دواعي هذا "الإنجاز" الذي رأوْه دليلاً على ولع كبار المسؤولين بمناصبهم، فالكرسي في العرف العام يُحيل إلى السلطة والمنصب العالي. وذلك فيما الذي أريدَ من المناسبة تأكيد القطاع الخاص في البلد متانة الصناعة الأردنية، خصوصاً قطاع صناعة الأثاث والخشبيّات. وعجيبٌ في الأردنيين أنهم يستقبلون بابتهاج أي أخبار عن أكبر قطعة بيتزا وأكبر برغر وأطول قالب حلوى وأكبر مسخّن فلسطيني، فيما يسخفّون أطول كرسيٍّ في بلدهم، يؤشّر إلى صناعةٍ محليّة ناجحة، سيما أنّ جهة إنتاجه ليست ذات محمولات سياسية.
ومن مصادفاتٍ خاصة أنّ صاحب هذه السطور استمع، أول من أمس، إلى نائب رئيس غرفة صناعة عمّان، إياد أبو حلتم، يقول أشياء طيّبة عن حضورٍ لصناعاتٍ محليّةٍ منافسة، وعن كفاءاتٍ أردنيةٍ مُنتجة، رغم صعوبات ومعيقات، وذلك في مداخلةٍ مرتجلة له، بعد محاضرة للأمير الحسن بن طلال شرّقت وغرّبت في غير أمرٍ وشأن، فبدت طوافاً في قضايا تجاوزت موضوعَها الخاص بمسألة الفقر. وكان غريباً أن يسمع الحضور من إعلاميٍّ في قناة فضائية محلية قوله إنّه لم يعثُر، في أثناء إعداده تقريراً تلفزيونياً عن الفقر في المملكة، على أي أرقامٍ وإحصاءاتٍ حديثة بخصوصه (عدد السكان 11.15 مليون نسمة، بينهم 2,9 مليون غير أردنيين)، فيما لا تتوقّف وزارتا التنمية الاجتماعية والتخطيط عن إشهار إحصائياتٍ دوريةٍ عن نسب الفقر ومستوياته في البلاد، ومن ذلك، مثلاً، قول نائب رئيس الوزراء وزير التخطيط والتعاون الدولي، ناصر الشريدة، إنّ نسبة الفقر في الأردن بلغت 24.1% في الربع الأول من العام الماضي (2022). وكان أمين عام وزارة التنمية الاجتماعية، برق الضمور، قد أعلن، في وقت أسبق، أغسطس/ آب 2021، أنّ نسبة الفقر في البلد 24% مرحلياً (مع ارتفاعها في ظروف تداعيات فيروس كورونا). وذلك فيما لم تتجاوز النسبة 13% في العام 2006.
ومن مصادفاتٍ غير خاصة أنّ رئيس الوزراء، بشر الخصاونة، أصدر أول من أمس، تعميماً أولياً لإعداد مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2024، لاحظ مختصّون فيه أنّه فيما المتوقع أن ينعكس حدوثُ تقدّم في مشاريع اقتصادية محلية وإقليمية كبرى، مُقرّة سابقا، إيجابياً على إيجاد وظائف ورفع معدّلات النمو، فإنّ حزمةً من التحدّيات تبقى ماثلة، من قبيل ارتفاع معدّلات البطالة في البلد، والتي كانت قد شهدت انخفاضاً طفيفاً في الربع الأول من العام الحالي (2023) إلى 21.9%، بحسب دائرة الإحصاءات العامة. وأيضاً ارتفاع معدّلات الفقر، واستمرار عجز الموازنة، واستمرار ارتفاع نسبة المديونيّة إلى الناتج المحلي. واتصالاً بهذا كله، يبدو دالّاً ما تضمّنته نسخةٌ مُحدّثة للبنك الدولي من تقريره "مؤشّر الدخل" (في العالم)، صدر مطلع شهر يوليو/ تموز الحالي، عن تصنيف الأردن ضمن فئة الدخل المتوسّط المنخفض، وقد كان مصنّفاً سابقاً ضمن الفئة العليا من الدخل المتوسّط.
ومن مصادفاتٍ خاصة أيضاً أنّ يستمع كاتب هذه المقالة، مع زملاء له من "فضاءات ميديا"، في لقاء مع وزير الاتصال الحكومي، الناطق باسم الحكومة الأردنية، فيصل الشبول، في معرض حديثٍ عام، عن قدرة الأردن على السيطرة على التضخّم (نسبياً)، في ظروفٍ صعبة، وأكلاف هائلة، في بلدٍ قليل الموارد، ويعتمد كثيراً على نفسه، ويستورد النفط والغاز، فلا تتجاوز نسبته 4,23%، فيما كانت التقديرات أن يصل إلى أكثر من هذا بكثير. ومع ارتياحٍ يوحي به هذا الحال، إلّا أنّ المعطيات أعلاه، عن نقصانٍ في الدخول، وعن ارتفاعاتٍ ماثلةٍ وأخرى متوقّعة في البطالة والفقر، ربما تفسّر هذا المزاج العام الناقم وراء السخرية الواسعة من الكرسي الأردني، الشاهد على صناعةٍ وطنيةٍ متقدّمة.