القراءة والنسيان
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
ماذا يبقى مما نقرأ؟ هذا السؤال موضوع تفكير كثيرين من قرّاء الكتب، أو من الشغوفين بمتابعة كلّ إصدار جديد، خصوصاً في حقل الرواية التي لا تفتر وتيرة الإقبال عليها، فدائماً لدى كثيرين منا، ضمن عادات القراءة، رواية قطعنا في قراءتها بدايتها أو منتصفها أو أكثر، خصوصاً من الروايات التي تجمع التاريخ والسياسة إلى جانب الحدث الذي ينطلق من الهامش والمقصي، خصوصاً إذا كان ينطلق من حياة رتيبة لامرأةٍ في المنزل أو طفلٍ ذاهب إلى المدرسة. لكنّ تلك الوقفات الاستطرادية التي يبرع فيها بعض الكتّاب هي ما تجعل الروايات مدار قراءة لا تتوقف عند زمن واحد، كما حدث مع الطيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال" ومع أورهان باموق في روايته البارعة "ثلج".
أتذكّر أنني اقتنيت من أحد أرصفة مدينة مارتيل في الشمال المغربي روايتين للأفغاني خالد حسيني، من نسخ مقرصنة تباع بأسعار منخفضة. وطبيعة روايات حسيني ضخمة، لكنّها شائقة، إلى جانب أنها تتضمّن كماً هائلاً من المعلومات السياسية التي تغنيك عن قراءة تاريخ أفغانستان ومآلات دامية في هذا البلد، لنكتشف أنّ كلّ ما حصل هناك كان نتاج أطماع خارجية لدول عظمى. وأميركا أحد اللاعبين الكبار في تحويل هذا البلد الذي كان في حال غير الحال إلى بؤرة للتطرّف والعيش الصعب. لم يمر أسبوعان إلّا وقد أنهيت قراءة الروايتين. ثم سألت نفسي عمّا بقي منهما... ما يتبقى بعد كلّ قراءة هو الأثر الجمالي البعيد. وهناك أيضاً الانطباع، ليس فقط الفني الذي كان موفقاً في الروايتين، وإلا لن يتمكّن القارئ من الصمود في قراءة مئات الصفحات من دون أن يخترقه الملل. وكان الانطباع الأهم أنك، بعد قراءة روايتي خالد حسيني، لن ترى الحياة في أفغانستان بالطريقة نفسها التي كنت تراها فيها من قبل، حين لم نكن نستقي معرفتنا إلّا من الأخبار التلفزيونية التي تركّز على الأحداث الجديدة المتتابعة والطارئة، وما ترغب في نشره وكالات الأنباء العالمية، من دون أن نصل، كما تفعل الرواية، إلى طينة الريح وطبيعتها التي تحرّك الأمواج، حسب مقولة لابن عربي.
يقول صاحب الرواية الشهيرة "العطر"، باتريك زوسكند، في كتاب تأملاته "ثلاث حكايات وملاحظات تأملية" إنّه ينسى كلّ ما قرأه ولا يبقى منه في رأسه أيّ شيء. ويقول عبد الفتاح كيليطو في كتابه "بحبر خفي" إنّه لم يتبق له من أثر من قراءة "الأيام" لطه حسين إلّا ذلك المعلم الذي لم يكن قادراً على النطق بحرف القاف. ويتفق هذا الشعور (شعور القراءة وأثرها) مع قناعة كتّابٍ بأقل أثرٍ تتركه كتاباتهم لدى قرائهم. قال بورخيس: إننا نكتبُ ما نقدر عليه، المهم أن تبقى أربع أو خمس صفحاتٍ من كلّ ما نكتب! وقال إليوت: عسى أن تبقى في ذهن القارئ سبعةُ أسطرٍ من "الأرضِ اليباب".
هناك وسيلة تقليدية، وهي الحفظ الإجباري، لم يعد معمولاً بها إلّا في نطاق ضيق، وربما فوائدها محدودة بسبب هذه الطبيعة الإكراهية فيها. وفي المقابل، لها فوائد هائلة في ترسيخ المعلومة. ضمن ذكريات الدراسة الجامعية، كان أستاذ النحو في جامعة محمد الخامس، محمد الأوراغي، يحفظ كتاب ابن هشام "مغني اللبيب...". وكان يردّد على مسامعنا أنّه لم يكن أمامه من سبيل في فهم هذا الكتاب إلّا حفظه: "إما أن أحفظه أو أقتله" كما قال مرّة في قاعة الدرس. وذلك بالنظر إلى صعوبة الكتاب النحوي العتيد.
يقال إنّ القدماء من الكتّاب العرب كانوا يحفظون كتباً كاملة. لم يكن المتنبي في طفولته يمتلك المال لشراء الكتب، فكان يختلف على النسّاخين، ويقيم معهم علاقة خاصة، ليسمحوا له بقراءة كتابٍ مقابل مبلغ زهيد، لكنّه كان يحفظ الكتاب كاملاً. إنّه بطريقة أخرى يقرأه إلى آخر حياته. ومن قصصٍ طريفةٍ يحبكها معارضو الطريقة التقليدية في التعليم، أنّ طالباً في الامتحان الشفوي كان يتلو على أستاذه كتاباً يحفظه عن ظهر قلب، لكنّه كان، في بعض الأحيان، يهزّ رأسه في حركة نصف دائرية. وحين استوقفه المعلم سائلاً عن سبب هذه الحركة، أجاب الطالب: كنت أقلّب صفحات الكتاب، يا أستاذ.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية