العراق والكويت... إرث مزروع بالألغام

09 اغسطس 2023

وزيرا الخارجية العراقي فؤاد حسين والكويتي سالم الصباح في بغداد (30/7/2023/فرانس برس)

+ الخط -

يروي سياسي عراقي مخضرم أنّ خلافاً نشب مرّة بين مفاوضين عراقيين ومفاوضين كويتيين بشأن مسائل الحدود، وعندما احتدّ النقاش انبرى مفاوض كويتي ليقول للعراقيين: "نضع ثلاثين مليون دولار في حقيبة، وينتهي الأمر"! يضيف السياسي العراقي أنّ الكويتيين وضعوا، في مرحلة لاحقة، ملايين الدولارات في أكياس من "الورق المقوّى" إمعاناً في الإذلال، وسلموها بهدوء ودونما ضجيج، لكنّ الأمر لم ينتهِ.

صحّت هذه الرواية أو لم تصحّ، فإنّ سجالات حادّة ظهرت الأسبوع الماضي على مواقع التواصل بين عراقيين وكويتيين، تخصّ العلاقة بين البلديْن الجاريْن، وتثير وقائع وأحداثاً بعضها مرّ، والذي أطلق شرارة هذا الإرث المزروع بالألغام قول وزير خارجية الكويت، سالم عبد الله الصباح، في نهاية زيارته أخيراً العراق، إنّ بلاده ستتسلم مدينة أم قصر خلال أيام. وقدّم "الشكر بشكل خاص" إلى محافظ البصرة أسعد العيداني. والمثير هنا "الصيغة" التي حملها التصريح، والتي تفصح عن دلالات "مقصودة" على ما يبدو، إذ حدّد الوزير "أم قصر" بالاسم، وشكر المحافظ باعتباره طرفاً فاعلاً في "الصفقة"، وأطلق تصريحه هذا في ذكرى "غزوة" الكويت التي عُدّت واحدةً من أكبر خطايا النظام السابق، إذ زرعت لغماً آخر في إرث العلاقة الإشكالية بين البلدين، والتي ترجع إلى أزيد من قرنين، عندما أصبحت الكويت تحت الحكم العثماني، وتابعة لولاية البصرة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

وقد سعت بريطانيا عند تأسيس الحكم الوطني في العراق في عشرينيات القرن الراحل إلى دقّ إسفين بين الدولة الجديدة والكويت، بوحي من مصالحها في السيطرة على المنطقة، وعبّر عن هذا الموقف صراحة وزير الدولة البريطاني لشؤون المستعمرات، اللورد باسفيلد، بإشارته اللافتة إلى أنّ "إبقاء الكويت ضمن العراق سيؤدّي إلى إضعاف النفوذ البريطاني في المنطقة". لكنّ العراق لم يتوقّف عن مساعيه لضم الكويت إليه، وجاءت دعوة الملك غازي انطلاقاً من ذلك. ويقال إنّ جهة ما دبّرت مقتله على خلفية موقفه هذا الذي يعني توجيه ضربة للمخطّطات البريطانية. وسنرى في ما بعد نوري السعيد يسعى إلى إدخال الكويت طرفاً في "الاتحاد العربي" الذي ضم العراق والأردن، لكنّ انقلاب/ ثورة 14 تموز 1958 في العراق أعاد العلاقة الإشكالية إلى نقطة الصفر.

يبدو أنّ الكويت أرادت، بعد استعادة سيادتها، أن تنتقم من العراق جرّاء الجرح الذي سبّبه لها، باستحواذها على أراضٍ وآبار بترول ونقاط استراتيجية عراقية

وعند حصول الكويت على استقلالها في مطلع الستينيات، استجدّت حالةٌ أقرب ما تكون إلى حالة "وضع راهن" ترتّب نوعاً من الالتزامات، سواء على الدولة الجديدة أو على الدول المجاورة. ولذلك اعتبرت خطوة عبد الكريم قاسم في إعلانه الكويت قضاءً تابعاً للواء البصرة، وتعيينه أمير الكويت قائممقاماً له، خطوة غير مقبولة من المجتمع الدولي، وهدّدت بريطانيا بالتدخل العسكري لحماية استقلال الكويت، ما دفع قاسم إلى التراجع، وما لبث العراق بعد سقوط قاسم ووصول البعثيين إلى السلطة أن اعترف باستقلال الكويت، وأقام معها علاقات دبلوماسية كاملة.

عند هذا المنعطف، فرض "الوضع الراهن" حالة هدوء على جبهة الحدود بين البلدين الجارين اللذين توافقا على أسس الجيرة والأخوة والمصالح المشتركة، وهذا لا ينفي أنّ الخلافات ظلت تطل برأسها بين حين وآخر، لكنّها كانت سرعان ما تُطوى وتتراجع إلى الخلف. وسنجد في نهاية الثمانينيات أنّ صدّام حسين قرأ "الوضع الراهن" قراءة خاطئة، ولم يحسِب حساباً للمتغيرات الدولية والإقليمية. ولعلّه نسي "إعلانه القومي" في رفض استخدام السلاح بين دولة عربية وأخرى. وهكذا أنشأ بإقدامه على غزو الكويت وضعاً جديداً، وزرع لغماً آخر في إرث العلاقة بين البلدين الجارين قد لا يمكن محو آثاره من ذاكرة الكويتيين إلى أمد طويل. ويبدو أنّ الكويت أرادت، بعد استعادة سيادتها، أن تنتقم من العراق جرّاء الجرح الذي سبّبه لها، باستحواذها على أراضٍ وآبار بترول ونقاط استراتيجية عراقية، وتحويلها ملكيّتها مستعينة بقرارات ظالمة أقرّها مجلس الأمن ضد العراق في أعقاب الغزو، واتّبعت في ذلك أسلوب دفع "الرشاوى" إلى شخصيات عراقية نافذة مقابل قبولها بما تريده الكويت، وآخر ما تردّدت نية الاستحواذ عليه مدينة أم قصر العراقية.

وهكذا يكتشف العراقيون أنّ حكّامهم الذين جاء بهم الاحتلال، ولا يملكون الشرعية لعقد اتفاقات لمنح آخرين ما ليس لهم حقّ فيه، قد تواطأوا على فعل ذلك، مضيفين بأفعالهم المشبوهة هذه لغماً آخر إلى إرث العلاقة الإشكالية مع الكويت، وهو أمر لا يريده العقلاء أن يحدث.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"