العالم الإسلامي بين نارين
ثمّة مشروعان دوليان يستهدفان صياغة الوضع في العالم الإسلامي: أميركي تحت مسمّى "الولايات المتحدة الإبراهيمية"، وروسي تحت مسمّى "حلف الأقليات". ومع اختلافهما في الشكل والمضمون، يتفقان في محاربة الإسلام السنّي، باعتباره الفكرة الحافزة والعقبة الكأداء في وجه الهيمنة والسيطرة الخارجية.
ينطلق المشروع الأميركي من تصوّر متعدّد المستويات، يبدأ من البحث عن القواسم المشتركة في الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، على خلفية المشترك الإبراهيمي، باعتبار نبي الله إبراهيم أب الأنبياء وأساس الديانات الثلاث، يصوغها في كتاب "مقدّس" جديد يعتبره بديلا للتوراة والإنجيل والقرآن، والاتفاق على عباداتٍ مشتركةٍ وصلوات مشتركة، في معابد مشتركة، وهذا يتم عبر تشكيل لجان من علماء في الأديان الثلاثة لهم تأثير في محيطهم كـمنابر لـ"دبلوماسية روحية"، والتعويل على نتائجها لتشكيل كيانٍ فيدرالي تحت اسم "ولايات متحدة إبراهيمية"، تضم الدول العربية وإيران وتركيا وإسرائيل، لإدارة الموارد، الأرض والمياه والنفط والغاز، بشكل مركزي بقيادة الجهة الأكثر تطوّرا في عالم التقنية والتخطيط العلمي، وهي هنا إسرائيل، بعدما فشل أصحابها في تحقيق ذلك. وقد حدّدت دراساتٌ أجريت في جامعات أميركية، مثل هارفرد وفلوريدا وفرجينيا وبنسلفانيا، المطلوب ومراحله. وقدّرت قيام الكيان الجديد عام 2037. وتضمنت خطة المشروع، من بين أشياء أخرى، تكتيك "الحوار الخدمي التنموي" لدعم فكرة الدين الواحد، عبر تقديم خدمات مباشرة للشعوب من المراكز المروّجة له، مثل محاربة الأوبئة والتلقيح ضد الأمراض والإغاثة بعد الكوارث الطبيعية والحروب الأهلية وإقامة البنى التحتية: مدارس، مستشفيات، طرق، جسور، والتأثير على المجتمعات المحلية من خلال التدخل في صياغة البرامج التعليمية. وقد تشكّلت لذلك عشرات المراكز البحثية والخدمية في عدد من الدول، مثل المركز العالمي للدبلوماسية الروحية، منظمة الأديان من أجل السلام، مشروع الأرض الجديدة، رؤية إبراهيم، مركز العلاقات اليهودية - الإسلامية، اتحاد تراث إبراهيم، إعادة اتحاد عائلة إبراهيم، بعضها بتمويل من الاتحاد الأوروبي، والبقية بتمويل بريطاني وأميركي رسمي وشعبي. كما أسّست وزارة الخارجية الأميركية في العام 2013 "إدارة خاصة" تابعة لها لمتابعة الموضوع، نصف كوادرها من علماء الأديان الثلاثة.
وقد بدأت تحرّكات كثيرة في دول العالم الإسلامي تنفيذا لخطط المشروع، من محاولة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي تشرف على مدارس اللاجئين، عام 2017 تغيير اسم القدس في مناهج الأطفال من الصف الأول إلى الصف الرابع الابتدائي، ليحل محله "المدينة الإبراهيمية"، وقد تصدّى لها أولياء الأمور والمدرّسون فتراجعت عن ذلك، إلى قرار وزارة التربية والتعليم في مصر عام 2020 جعل ما هو مشترك بين اليهودية والمسيحية والإسلام جزءًا من مناهج الدراسة، مرورا بزيارة البابا فرانسيس العراق عام 2021، وصلاته في سهل أور، حيث عاش النبي إبراهيم، وشكره لله الذي "أهدانا إبراهيم". وإقامة صلاة مشتركة لممثلي الديانات الثلاث في الإمارات تحت شعار الخلاص من كورونا، والبدء بتشييد معبد مشترك فيها.
والخطير في المشروع كامن في عاملين: ربطه باتفاقية الأمم المتحدة حول الشعوب الأصلية الصادرة عام 1980، والتي تقضي بإعادة السكان الأصليين إلى الخريطة وتعويضهم عن أملاكهم ومعاناتهم بسبب القمع والاضطهاد والاستعمار، تبريرا لمطالبة إسرائيل بتعويض يهود الدول العربية عن أملاكهم التي تركوها عند هجرتهم إلى فلسطين، وتفكيك الدول العربية لإقامة الفيدرالية العتيدة. وهذا لا يعني ضياع حقوق الشعب الفلسطيني فقط، بل وتحول إسرائيل إلى شريك في الثروات العربية.
الانخراط في "حلف الأقليات" ليس خيارا منطقيا في زمن الدولة الوطنية، خصوصا إذا تكرّس تصور بعض دعاته إلى الانفصال وإقامة كيان ديني أو مذهبي خاص
أما المشروع الروسي، المعروف بـ"حلف الأقليات"، فلا يختلف من حيث الهدف مع المشروع الأميركي المذكور أعلاه إلا في الشكل، حيث سعت موسكو، ومن خلال كنيستها الأرثوذكسية، إلى استقطاب المسيحيين، بذريعة حمايتهم من الخطر الإسلامي، والعمل على إقامة تحالفٍ يضم المسيحيين والأقليات الإسلامية (شيعة، علويون، دروز)، لمواجهة الأكثرية السنّية. كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد رفض، في حديث لإذاعة "كوميرسانت اف أم" الروسية عام 2012، ما سماها "إقامة نظام سنّي في سورية" خوفا على مصير المسيحيين والعلويين والدروز، وكرّر الموقف ذاته يوم 24/7/2021 في حديثه لقناة "روسيا 24" بمناسبة عيد الميلاد الـ55 للمطران هيلاريون، بقوله "إن وزارة الخارجية الروسية بالتعاون مع الكنيسة الروسية تتخذ خطوات ملموسة لحماية المسيحيين، وخصوصا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، وأضاف: "بالتعاون مع قسم الاتصالات الخارجية للكنيسة نقيم منذ عدة سنوات منتدى خاصا لدعم المسيحيين، على هامش فعاليات منظمة الأمن والتعاون الأوروبي ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. ويشارك فيه شركاؤنا من الفاتيكان ووزراء خارجية كل من أرمينيا وهنغاريا وبيلاروس ولبنان والدول الأخرى التي ترى خطرا على الإقامة الطبيعية والهادئة والآمنة للمسيحيين في الشرق الأوسط". وهو ما كان قد أكد عليه رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف، في لقاء مع صحيفة هاندلز بلات الألمانية يوم 29/1/2013 بقوله إنه "يجب الحؤول دون وصول أهل السنّة إلى السلطة في سورية؛ لأنهم سيبدأون بقتل العلويين". وقد تلاقى هذا التوجه مع توجهات لدى قوى مسيحية محلية، جسّدتها جمعية "اللقاء المشرقي" التي شكلها الوزير اللبناني السابق ورئيس حزب التيار الوطني الحر، جبران باسيل، وآخرون في لبنان عام 2017، بذريعة حماية المسيحيين واستعادة حقوقهم المسلوبة التي سلبها السنّة عبر اتفاق الطائف. وقد تجاوبت مع هذا التوجه قوى مسيحية في سورية والأردن والعراق؛ كما لاقى مباركة إيران ودعمها من خلال حزب الله. وقد عقدت الجمعية مؤتمرها الأول يوم 15/10/2019، حيث لم يقتصر الحضور على ممثلين لأقليات مسيحية في سورية والعراق والأردن ولبنان، بل حضر كرد وأيزيديون وشيعة وعلويون وغيرهم من الجماعات التي تندرج ضمن تعريف الأقليات. وقد عقد هذا المؤتمر للقول "إن ثمّة هوية مشرقية تمتد من بيروت إلى طهران، المسيحية مكوّن أساسي لها، كما الأقليات، دينية كانت أو مذهبية إسلامية". وقد أعلن الوزير باسيل، في حفل عشاء تكريما للمشاركين في المؤتمر، أن "المشرقية هي حضن حضاري ثقافي يمتد على مساحة العراق وسورية ولبنان والأردن وفلسطين، لكننا نريد تحويلها من مفهوم مجرّد للحضن إلى حاضنة جغرافية حسّية، على أمل أن تأخذ شكل الكيان السياسي الاقتصادي الذي يحصد هذا الكم الحضاري والإرث الثقافي غير المسبوقين في تاريخ البشرية".
مشروعان يستهدفان صياغة الوضع في العالم الإسلامي: أميركي "الولايات المتحدة الإبراهيمية"، وروسي "حلف الأقليات"
إذا كانت القوى المحلية ترى في "حلف الأقليات" تكاتف مجموعاتٍ تعتبر نفسها مستهدفة، وعليها التصدّي للخطر المشترك عبر تنسيق عملي، فان روسيا ترى فيه فرصة للحصول على موطئ قدم في منطقة هامة جيوسياسيا وجيواستراتيجيا لمواجهة الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وترى في القوى المحلية أدواتٍ لتحقيق أهدافها من دون اعتداد بتطلعات هذه القوى ومصالحها، فالانخراط في "حلف الأقليات" ليس خيارا منطقيا في زمن الدولة الوطنية، خصوصا إذا تكرّس تصور بعض دعاته إلى الانفصال وإقامة كيان ديني أو مذهبي خاص، حيث قاد نشوء دول وطنية إلى قيام معادلة مركبة "وطن" و"إثنيات" و"مذاهب" و"طوائف" داخلة فيه؛ فغدا الانخراط في "حلف الأقليات"، بوصفه تشكيلا عابرا للحدود، مدخلا لضرب الدولة الوطنية التي تتميز بعموميتها وتمثيلها كل مكوناتها القومية والدينية والمذهبية، باعتبارها دولة الجميع، وغدا التعاون والاندماج الوطني أولوية ووسيلة ضرورية لحماية كل مكونات المجتمع وصون حقوقها.
لا يمكن النظر إلى المشروعين نظرة تبسيطية باعتبارهما تصوّرين خياليين؛ فالعمل الدائب وتوازن القوى المختل لصالح أصحاب المشروعين يجعلان منهما خطرا حقيقيا وداهما، ما يستدعي التفكير في أشكال المقاومة الممكنة على المستويين، القريب والبعيد، ولعل أول خطواتها الكشف عن المشروعين وأهدافهما وأدواتهما ورجالاتهما والتنبيه من مخاطرهما وتعزيز الحذر والحيطة من الدعوات الملتبسة.