الصهيونية وارتداد الحداثة إلى الأبدي

20 يوليو 2024

(كمال بلاطة)

+ الخط -

عميق وعالمي أثر الصراع على فلسطين. وفي أتون النار المُشتعلة في غزّة تحترق أجساد مدنيين أبرياء، بينما تنضج أشياء، لا مبالغة في توقّع أن تبعث عالماً جديداً من رماد هذه الأرض المباركة وشعبها العظيم. ومع كلّ يومٍ في محرقة غزّة، يزداد البحث عن إجاباتٍ لأسئلة المشهد المهيب المؤلم. ومع قدرة كلّ إنسان في العالم (للمرّة الأولى في التاريخ الإنساني) على الحصول على موارد معلوماتية هائلة بـ"كبسة زرّ"، تحتفظ حقائق سابقة بطزاجتها وتعود إلى الحياة، وتأخذ مكانها في الذاكرة والوعي معاً.

وعند البحث بكلمات مفتاحية مناسبة لاستكشاف جوانب العلاقات الإسرائيلية - الألمانية، يحيلك خبرٌ جديد عن التزام ألمانيا تجاه إسرائيل والأدبيات التي تُبرّره، على معطيات أقدم. ومن هذه المعطيات تقرير إخباري (موقع دويتشه فيله الألماني، 25 إبريل/ نيسان 2023)، وعنوانه "ألمانيا وإسرائيل: مسؤولية أبدية رغم اختلاف وجهات النظر". تاريخ نشر التقرير مُهمّ لأنّه يسبق عملية طوفان الأقصى، ما يُبطِل حُجّة من يتذرّع بتلك العملية مبرّراً مقبولاً منطقياً، وربما أخلاقياً، لموقف ألماني ما تزال حلقاتُه المتتابعةُ تصدم كثيرين. يشير التقرير إلى "علاقة خاصّة" تربط تلّ أبيب وبرلين "مطبوعة بالمحرقة والقتل الجماعي لليهود في حقبة ألمانيا النازية"، و"القتل الجماعي لليهود انطلق من ألمانيا. وقد خطّط له الألمان ونفّذوه. ومن هذا المنطلق، تتحمل كلّ حكومة ألمانية المسؤولية الأبدية عن أمن دولة إسرائيل وحماية الحياة اليهودية". هذه العبارات بنصّها الحرفي قالها المستشار الألماني أولاف شولتز (2/3/ 2022)، بعد أن زار نصب ياد فاشيم التذكاري للهولوكوست في القدس المحتلّة.

الإحصاءات الواردة في التقرير عن علاقات البلدين تجعل المشهد الراهن (قبل طوفان الأقصى وبعده) أكثر إلغازاً. رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون والمستشار الألماني كونراد أديناور التقيا مرَّتَين فقط. المستشار الألماني فيلي براندت، أول مستشار ألماني يزور إسرائيل، بينما خليفته هيلموت شميدت لم يسافر أبداً إلى إسرائيل مستشاراً. والمستشار غيرهارد شرودر زار القدس عام 2000. وخلال 16 عاماً تولّى خلالها المنصب لم يزر هيلموت كول إسرائيل سوى مرَّتَين، وزارتها أنجيلا ميركل ثماني مرّات، وشكّل خطابها في الكنسيت قمّة علاقات البلدين. قالت: "كلّ حكومة اتحادية وكلّ مستشار قبلي كان ملتزماً بالمسؤولية التاريخية الخاصّة لألمانيا عن أمن إسرائيل. المسؤولية التاريخية لألمانيا جزء من المصلحة الوطنية لبلدي. وهذا يعني أن أمن إسرائيل لا يمكن التفاوض عليه أبداً". والمستشار أولاف شولتز كان يتبنّى وجهة نظر نقدية لمشاركة أحزاب وسياسيين من اليمين المُتشدّد في الحكومة الإسرائيلية. وما تعكسه المُؤشّرات سالفة الذكر أنّ مسؤولية ألمانيا عن الهولوكوست النازي لم تعد مسألة "زمنية" (شأن كلّ ما يُفتَرَض أن تعالجه السياسة في زمن "الحداثة")، بل تحوّلت التزاماً أبدياً، فأيّ حارسٍ هذا الذي يستطيع حراسة أيّ فكرة أو حتّى قيمة أخلاقية أو عقيدة دينية إلى الأبد؟

من الخطر أن تتعمّق في العقل والوجدان الألمانيين فكرة "الاستثناء الإسرائيلي"، وأبدية الالتزام به

وإحلال "الزمني" كان لقرون إحدى أكثر علامات الحداثة السياسية وضوحاً، وهنا يبدو أنّ على منتجي الفِكَرِ أن يتوقّفوا طويلاً أمام الدور الذي تقوم به الصهيونية (المشروع والدولة معاً) في تآكل الأساس الحداثي للسياسة الغربية، ربّما منذ "الثورة الفرنسية" (1789). وقد يكون هذا الترابط الذي كشفت عملية طوفان الأقصى درجة عمقه اليوم، ومآلاته المُحتملة في المديين المتوسّط والبعيد، قضيةً ذات أولوية أولى بالنسبة للأكاديميين العرب والمسلمين. وقد كان أحد أشهر شعارات النازي أن يدوم الرايخ الألماني ألف عام، وبعض الأنظمة الأكثر شعبوية في تاريخ العرب المعاصر رفعت شعاراتٍ من نوع "الفاتح أبداً"، الذي رفعه نظام مُعمَّر القذّافي، لكنّ الديمقراطية الألمانية لا يُفهَم (لأسبابٍ معرفية) أن يكون في خطابها الرسمي مثل هذا التفكير الأبدي.

وفي عالم تسبّبت فيه حراسة الأنكلوسكسونية لمبدأ "الاستثناء الإسرائيلي" بتشوّهات خطيرة في النظام الدولي، من الخطر أن تتعمّق في العقل والوجدان الألمانيين فكرة "الاستثناء الإسرائيلي"، وأبدية الالتزام به، وأول ما تُعلّمنا إيّاه الحداثة أنّ السياسة تدور حول "الزمني" فقط، وأنّ ادّعاء القدرة على الإمساك بـ"الأبدي" وهم ثيوقراطي دفنه الغرب في نهاية القرون الوسطى، فهل هي بالفعل ردّة، أم كنّا مخدوعين؟