البرادعي والسياسات والأشخاص... اعتراف متأخّر

22 نوفمبر 2024
+ الخط -

كلمات قليلة في تدوينةٍ لمحمد البرادعي، عبر حسابه على منصّة إكس، نكأت جرحاً سياسيّاً ومعرفياً غائراً في العقل العربي. كتب البرادعي أن "السياسات أشخاص". والعبارة تعني، أولاً، أن التجربة الأميركية في الاجتماع السياسي أصبحت تشكّل تحدّياً لمعظم الليبراليين العرب الذين أكّدوا، ما يقرب من قرنين، أن "الدولة" حتى تستحقّ وصف "الحديثة" فمن الحتمي أن تكون محايدةً "مُعقَّمةً" من المسبقات العقائدية والأخلاقية جميعاً، وأن مفهوماً للمصالح وحده ما يحرّكها. ومعرفياً، تثير كلمات البرادعي الجدل القديم/ الجديد عن الذاتي والموضوعي في العلوم الإنسانية. وتحمل بقية تدوينة محمد البرادعي اعترافاً بأن الشخصيات التي رُشِّحت لتولي ملف السياسة الخارجية عامة، وبخاصة الشرق الأوسط في إدارة ترامب، "منحازة بالكامل للسياسات الإسرائيلية الحالية التي تهدف إلى تصفية ما تبقَّى من القضية الفلسطينية".

وقبل سنوات، نقل إلى العربية اللبناني محمد السماك كتاباً مهمّاً للأميركية غريس هالسل، كتب في مقدمته للترجمة العربية أن الكتاب سيسبب صدمة للقارئ العربي. عنوان الكتاب: "يد الله"، وعنوانه الفرعي: "لماذا تضحّي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل"، ورسالة الكتاب، من دون مواربة أو مناورة، أن القناعات (وضمنها القناعات الدينية) تحرّك السياسة الأميركية، حتى لو عرَّضت مصالحها للخطر. وعليه، يناقض هذا المنظور مقولة إن المصالح وحدها ما يحرّك السياسة، وهو، في الوقت نفسه، يقوض خرافة أن "الدولة" محايدةٌ عقائديّاً، وهي ليست كذلك ولا يجوز أن تكون!

الأكاديمي الأميركي ريتشارد نيد ليبو، أستاذ كرسي جيمس و. فريدمان الرئاسي في كلية دارتموث، أستاذ الذكرى المئوية بكلية لندن للاقتصاد، أحد أهم منظري ما يمكن وصفه "التوثيق المضاد" للسردية التي ساهم الهوس بها بين شرائح من الليبراليين العرب في توفير "ورقة توت" للثورة "المضادة العربية"، وهي اختبأت وراء شعار: "إنقاذ الدولة الحديثة".

محمد البرادعي صفحة من تاريخ الشقاق الطويل بين النخب والشعوب

يتحدّث ريتشارد نيد ليبو في كتابه "لماذا تتحارب الأمم؟: دوافع الحرب في الماضي والمستقبل" (ترجمة: إيهاب عبد الرحيم علي، عالم المعرفة، أغسطس/ آب 2013، الكويت)، عن كتاب آخر بلور فيه نظريته لعلاقة الدين بالسياسة. وقد برّر مسعاه لتتبع البعد الروحي في السياسات المعاصرة بالقول في كتابه: "نظرية ثقافية للعلاقات الدولية" بأن السائد في تنظيرات العلاقات الدولية أن تكون "مبنية على نموذج اقتصادي ضيق (Parsimonious) للدوافع البشرية"، وهو يضيف: "وفي العصر الحديث، تعرّضت الروح (thumos) إلى التجاهل بدرجة كبيرة من الفلسفة والعلوم الاجتماعية. إنني مقتنع بأنها موجودة في كل مكان، وأنه ينتج عنها الدافع العالمي لاحترام الذات، الذي يتم التعبير عنه في السعي نحو الشرف أو المكانة".

إن ريتشارد نيد ليبو يقول بوضوح: "لا تمتلك المؤسسات والدول نفوساً ولا عواطف، لكن الناس الذين يديرون هذه الجماعات أو ينتسبون إليها أو يمتلكونها، وهم يسقطون، في أحيانٍ كثيرة، احتياجاتهم النفسية على وحداتهم السياسية؛ ومن ثم يشعرون بالرضا عن أنفسهم عندما تحقق تلك الوحدات انتصارات أو تبلي بلاءً حسناً"، وفي الكتاب طوَّر نموذجاً للسياسة والعلاقات الدولية مبنياً على الروح، ووثق أهميته في السياسة الداخلية والقرارات الحاسمة في السياسة الخارجية "بعددٍ من دراسات الحالات تراوحت بين اليونان القديمة والحربين العالميتين، والغزو الأنجلو – أميركي للعراق".

المسافة بين العقائد والمصالح في العقل السياسي العربي مليئة بالأوهام والأكاذيب

والمسافة بين العقائد والمصالح في العقل السياسي العربي مليئة بالأوهام والأكاذيب، ومنها خرجت أشباح الدفاع عن "الدولة المحايدة" عقائديّاً، من تدمير حماة على يد نظام حافظ الأسد مروراً بـ"العشرية السوداء" في الجزائر، حتى وصلنا إلى مرحلة الدفاع عن الدولة الحديثة بـ"البراميل المتفجّرة"!

الأزمة معرفية ونفسية في آنٍ واحد، وخلف بنيتها النظرية الظاهرة حسابات مصالح مخبأة بعناية وتساهم في استمرار علاقة النخب العربية الحاكمة بقناعات شعوبها. ومحمد البرادعي نفسه صفحة من تاريخ هذا الشقاق الطويل بين النخب والشعوب، ودوره السياسي في تمكين "الثورة العربية المضادة" كان ينبغي أن يجعله أكثر تصالحاً واتساقاً مع حقيقة أن العقائد ينبغي الاعتراف بها واحدةً من مدخلات القرار السياسي حتى في الدولة الحديثة. وأيّاً كان الرأي في توجهات إدارة ترامب تجاه القضية الفلسطينية، فإن استحضاره المسيحيّة بكثافة في خطابه السياسي يفرض على ليبراليين عرب، على الأقل، الاعتراف بالخطأ والاعتذار!