الكاشف والصادم في رؤية إسرائيلية إلى الغرب
لا ينكر منصف أن النظامَ العالمي، الذي وُلِد من رحم الحرب العالمية الثانية، عالميٌ كرَّس مركزية الغرب وجعلها مُقنَّنةً داخل مجلس الأمن وخارجه. ومع تأخر ميلاد نظام عالمي تعدّدي، فإن الفرق بين إدراكنا حجم تأثير الغرب في الواقع السياسي الدولي، ورؤيتنا إلى الغرب نظريّاً وأخلاقيّاً، هو الفرق بين "ما يمكن أن نتبناه" و"ما نتمناه". والتقييم السياسي المباشر لما يحدث في منطقتنا لا يمكن أن يتجاهل "الفاعل الغربي"، وبخاصة في ظل عجز عربي مريع.
وفي الصراع – الصريح، أو الضمني، على دعم غربي، لم نحصل عليه قط، لقضايانا العادلة تطرح أسئلة: القيم، والمصالح، ومدى دقة معرفتنا بالغرب الرسمي والنخبوي والشعبي، ولا يخلو الاستكشاف من مفارقات وصدمات (وأحياناً مفاجآت سارة)، وما يحدث اليوم مثال على ذلك.
إحدى الأدبيات المهمة في هذا السياق، ورقة سياسات عنوانها: "العوامل الجيوستراتيجية، وليس الاعتبارات الإنسانية، هي التي تشكل الرأي العام في الغرب"، (معهد القدس للاستراتيجية والأمن JISS، 25 نوفمبر 2024) كتبها البروفيسور هيليل فريش، أستاذ العلوم السياسية وتاريخ الشرق الأوسط في جامعة بار إيلان الصهيونية. أهم ما ورد في الورقة أنه، وعلى النقيض مما تحاول وسائل الإعلام "التقدمية" الأميركية (مثل "سي أن أن") أن تجعلنا نصدقه، فإن "الجمهور المتعلم الناطق بالإنكليزية يهتم بالجوانب الجيوستراتيجية للصراع أكثر من اهتمامه بالمحنة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون".
وبنى الباحث الصهيوني ورقته على إحصاءات عمليات البحث على "غوغل" خلال الحرب، وركزت بشكل كبير على مصطلحي "إيران" و"إسرائيل" بدلًا من "غزة" و"الفلسطينيين"، وبخاصة بين الجمهور الأميركي. وتثبت هذه النتيجة أن الجمهور الغربي يركز على خطر الاضطراب الإقليمي واحتمال اندلاع حرب إقليمية أوسع، أكثر من تركيزه على القضايا الحقوقية والإنسانية. والمواقع الإعلامية الليبرالية التقدمية القوية ("سي أن أن"، "نيويورك تايمز"، "واشنطن بوست") تريدنا أن نعتقد أنها تنظر إلى الصراع عبر عدسة إنسانية وتقدمية. وبحسب الباحث الصهيوني فإن تغطية هذه المنابر "التقدّمية" للمحنة الإنسانية في غزّة تتأسس على أن عدد القتلى الهائل يفوق في أهميته المخاوف الجيوستراتيجية. وتفيد نتائج التحليل الذي أنجزه الباحث للإحصاءات بأن "الاهتمامات التقدمية والإنسانية تلعب دوراً ثانويّاً". وحتى في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، كان هناك مقابل كل ست عمليات بحث تتعلق بإسرائيل أو إيران بحث واحد فقط عن مصطلحي "الفلسطينيون" أو "غزة"، ولو ركز الباحثون في "غوغل" في الواقع على القضايا "الإنسانية"، لكانت النسبة معكوسة.
الجمهور الغربي يركز على خطر الاضطراب الإقليمي واحتمال اندلاع حرب إقليمية أوسع، أكثر من تركيزه على القضايا الحقوقية والإنسانية.. هذا ما خلصت إليه إحدى الدراسات
والاستنتاج الأكثر أهمية وخطورة في ما كتبه الباحث الصهيوني أن هذا يعكس حقيقة مفادها أن "السياسة الدولية في أميركا تدخل في المقام الأول في عمل النخب". وبالنسبة لإسرائيل، هذه النتائج مفيدة، وتظهر أنه "على عكس تصوير الحرب في وسائل الإعلام "التقدمية" الرائدة، فإن أغلب الناطقين بالإنكليزية المتعلمين في جميع أنحاء العالم وأميركا ينظرون إلى الصراع من خلال عدسة واقعية". وختام الاستنتاجات يكشف الطبيعة الوحشية لرؤية الباحث الأخلاقية، إذ يقول إن النتائج تفيد بأن "إسرائيل في الواقع تتمتع بقدر أعظم من الحرية في التعامل مع أعدائها مقارنة بما هو متصور عادة".
ومنهجية التحليل التي استخدمها الباحث لا تخلو من نقاط ضعف يمكن الوقوف عندها تفصيلًا، كما أن كاتبها اغفل ردود فعل تتعارض مع الإحصاءات التي استند إليها (منفردة)، وأن حرب غزّة أثرت فعليّاً في مفهوم النخبة وحدوده. وبعد خلاصة الدراسة وتعليقي عليها، وتبقى دروس معرفية (وأخلاقية)، فالمنظور دارويني قح، وذكَّرني بواقعتين: حوار مع منظّر الحرب الصهيوني مارتن فان كريفلد، وفيه قال لمحاوره إن الجرائم الوحشية جزء من بنية التاريخ، وعلى إسرائيل أن تضرب الفلسطينيين ضربة رهيبة يسقط فيها آلاف القتلى لضمان أمن إسرائيل لسنوات مقبلة، ومؤكدًا أن ذلك لن يقود أحداً إلى أية عدالة دولية، فالغرب سوف يتغاضي، طالما أنها جريمة هدفها منع جريمة أكبر!
في الواقعة الثانية، كان أمين عام الأمم المتحدة السابق بطرس غالي يحرض بقوة على استخدام القوة المميتة ضد "الربيع العربي" لإنقاذ "الدولة الوطنية"، مؤكدًا أن الغرب سينسى... والباحث الصهيوني، في النهاية، "يبشّر" صانع القرار الصهيوني بأن سقف الوحشية التي يمكن أن يتقبلها الغرب أعلى بكثير مما يبدو!.