الصراع على الشارع في تونس

06 مايو 2022

تونسيون في تظاهرة حاشدة في العاصمة ضد الرئيس قيس سعيّد (10/4/2022/ الأناضول)

+ الخط -

يعدّ الشارع حيّزا حركيا حيويا، ومجالا استعراضيا متجدّدا، وفضاء عمرانيا، تعبيريا عامّا، ومكثّفا، يعبّر من خلاله النّاس عن وجودهم بأشكالٍ شتّى، فالشارع من منظور عمراني هو مجال للبناء والتعمير، وهو طريق السعي في طلب المعاش، والرفاه والترفيه، وهو مكان للتجلّي الجمالي، والإبداعي، ومجال للتلاقي، والتأمّل، والتباري، والتداعي. وفي السياق السياسي، يعدّ الشارع مجالا تعبويا، تعبيريا حيويا، يتنافس على امتلاكه الحاكم والمحكوم، وتوظّفه السلطة السائدة والمعارضة القائمة لتأكيد وجودها، ولاستقطاب الناس، وتحشيدهم في مظاهرات تمجيدية أو مطلبية أو احتجاجية أو تثويرية. فالشارع المتظاهر/ المحتشد يمكن أن يكون قوّة ضغط وأداة تغيير كما يمكن أن يكون متراس إسنادٍ وتثبيت للراهن الاجتماعي والسياسي. والناظر في تاريخ تونس المعاصر، يلاحظ جليّا أنّ الشارع ظلّ منذ الاستقلال مدار تنازع بين السلطة الحاكمة والمعارضة. ويمكن التمييز منهجيا بين ثلاث مراحل في سيرورة الشارع السياسي في تونس: الأولى، زمن الحكم الشمولي على عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وخلفه زين العابدين بن علي. والثانية، مرحلة الانتقال الديمقراطي بعد الثورة. والثالثة، زمن حكم الاستثناء على عهد الرئيس قيس سعيّد.

على امتداد عقود من قيام ما تُعرف بدولة الاستقلال (1956)، ظلّ الشارع، سياسيا، خاضعا غالبا لهيْمنة رئيس الجمهورية وأتباع الحزب الحاكم، فهو المجال الحيوي لتنظيم أنشطتهم الدعائية، ومواكبهم التمجيدية والاحتفالية بشخص الرئيس، فكثيرا ما جرى تحشيد الناس، ورصّهم على جنبات الشوارع، ليصفّقوا للرئيس، ويهتفوا باسمه ترحيبا بقدومه إلى هذه المدينة أو تلك، ويتمّ في الأثناء تعداد خصال الرئيس المنقذ، ومنجزاته، وفضائله وحزبه على الناس، فهو ليس مواطنا عاديا، مكلّفا بمهمّة، يتقاضى مقابلها أجرا من جيوب المواطنين، بل هو كائن غير عادي في نظر أنصاره، تعجّ الشوارع على مدار السنة بصوره، وتلهج الأفواه بفضله وحكمته. وللتاريخ، نصَب الحبيب بورقيبة لنفسه تماثيل، تخلّد ذكره في عدّة شوارع رئيسية بمدن تونسية، وسمّى مؤسساتٍ وشوارع باسمه أو باسم أفراد من عائلته تجسيدا لمقولته الشهيرة "تونس هي أنا"، على نحو جعل أنطولوجيا البلد، بتنويعاتها المختلفة، مختزلة في شخص الرئيس. وكان جلّ شوارع المدن التونسية يحتفل شهرا كاملا بميلاد الحبيب بورقيبة، فتضجّ الساحات العامّة بأهازيج مدحية وأناشيد وطنية وخطب مسجّلة له، وترفع عند مداخل المدن وعلى أبواب المؤسسات العمومية والخاصة صوره ولافتات تحمل أقواله إشهادا للعالم على النفس، وإعلانا عن الولاء لـ"الزعيم الملهم"، فيما تتنادى الجموع المؤيدة التابعة له بشعارات، من قبيل "يحيا بورقيبة"، "المجد للمجاهد الأكبر"، "بالروح، بالدم، نفديك يا بورقيبة"، وذلك في إطار ما تعرف بمشهدية الشارع التمجيدي.

في المقابل، لم يكن في مقدور معارضي النظام البورقيبي التعبير عن وجودهم بحرّية في الشارع، فشعاراتهم كانت ممنوعة، وأفكارهم محظورة، وتظاهراتهم مقموعة. لذلك كان جلّ اجتماعات المعارضين سرّيا، وظهورهم العلني لا يتجاوز حدود أسوار الجامعات والنقابات المهنية. وأدّى ذلك النهج الأحادي في إدارة البلد إلى انفجار الشارع الاحتجاجي ضدّ النظام الحاكم سنة 1978، بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل. وواجه بورقيبة تلك الاحتجاجات بقوّة السلاح، فسقط كثيرون بين قتيل وجريح، وجرى إيداع آخرين أقبية السجون. وسنّ بورقيبة بعدها قانون الطوارئ، سيئ الذكر، الذي منع التظاهر، وقيّد حركة الشارع، وصادر الحريات العامّة والخاصّة. ولم يمنع ذلك الشارع المطلبي من القيام من جديد في وجه النظام الحاكم سنة 1984، عندما اندلعت "انتفاضة الخبز" احتجاجا على تدهور المقدرة الشرائية وارتفاع سعر الخبز، وكانت المواجهة داميةً بين المتظاهرين والقوات المسلّحة وذهب ضحيتها كثيرون. ودفع ذلك بورقيبة إلى التراجع عن الزيادة المعلنة، قائلا: "قرّرت لا زيادة في الخبز، نرجعو كيِما كنّا". فبدا واضحا أنّ السلطة الحاكمة لم تعدّل قرارها إلّا تحت وطأة الشارع الاحتجاجي العارمة.

كلّما جرى تهميش الهياكل التمثيلية للمواطنين، والتضييق على حرّياتهم ومعاشهم، تزايدت احتمالات احتكامهم إلى الشارع

أمّا زين العابدين بن علي، الذي دشّن انقلاباً طبّياً أبْيض (1987) على بورقيبة، فواصل نهج سلفه في احتكار الفضاء العام وتجييش الشارع ضدّ معارضيه، ووظّف البوليس السياسي لفرض محاصرة لصيقة عليهم، ومنع جلّهم من العمل، والسفر، والنجاح في مناظرات الوظيفة العمومية على خلفية توجّهاتهم السياسية، وراوح بين حظر اجتماعاتهم التعبوية والدعائية وتوظيف بلطجية الحزب الحاكم لإرباكها وتعطيلها. فيما احتوى اتحاد الشغل، وزجّ آلاف المعارضين في السجون. وأدّى ذلك إلى تصحير الشارع السياسي الذي أخلاه بن علي من تماثيل بورقيبة، حتّى لا ينافسه على الزعامة حيّا وميّتا. ولم تَعْلُ في الشارع طوال عقدين تقريبا، سوى صور الرئيس، وشعارات أتباعه ومناشديه "يحيا بن علي"، "المجد لصانع التغيير وحامي الحمى والدين"، "الله أَحدْ.. الله أَحدْ.. بن علي ما كيفو (ليس مثْله) أَحدْ". لكنّ انتفاضة الحوض المنجمي (2008) كسرت جدران الصمت، وسطوة الحكم المطلق، فنزل سكّان المنطقة إلى الشوارع، مطالبين بحقّهم في التنمية والتشغيل، وواجه النظام الدكتاتوري ذلك الحراك الاحتجاجي بقوّة السلاح. فانكشف عنفه أمام العالَم، وعجزه عن امتلاك الشارع في مناطق الظل وتلبية مطالب المحتجّين. وتأكّد ذلك مع ثورة 2010 /2011 الشعبية العارمة التي اندلعت من شوارع سيدي بوزيد، لتنتشر في كلّ شوارع المدن المهمّشة، وتصاعد الاحتجاج التثويري ليشمل كلّ المحافظات، وبلغ مداه في المدينة/ المركز(العاصمة)، حيث تظاهر المحتجّون بكثافة في شارع الحبيب بورقيبة، بما يحمله من رمزية، وأمام وزارة الداخلية باعتبارها مركز سيادة النظام، ليعبّروا عن رغبتهم في انتزاع الشارع الرئيسي (الفضاء العام) من الدكتاتور وأعوانه، وتركيز السيادة الشعبية على البلد، رافعين شعارات تغييرية: "ارحل"، "السلطة/ الشارع ملك الشعب"، "شغل، حرّية، كرامة وطنية". ومع بطش آلته القامعة، وسقوط عديد الضحايا، أدرك بن علي أنّه خسر معركة الشارع، وأنّ القوّات المسلّحة غير قادرة على ضبط حركة الشارع الثائر، ففرّ من البلد من دون رجعة، فكانت بذلك للشارع قدرة تغييرية حاسمة.

في عَقْد الثورة (2021/2011)، أصبح الشارع التونسي تعدّديا بامتياز، مفتوحا لتعبيرات الناشطين السياسيين والنقابيين، والحقوقيين، والمثقفين وغيرهم، فجسّد ثقافة الاختلاف والدمقرطة داخل الاجتماع التونسي. وغدا الشارع الاحتجاجي عنصرا فاعلا في توجيه سياسات الدولة والتأثير على أصحاب القرار، فبعد خلع بن علي، نجح "اعتصام القصبة" في إطاحة حكومة محمّد الغنوشي، وأدّت حركة المجتمع المدني إلى التنصيص على حرّية الضمير، والمساواة بين المرأة والرجل في الدستور. وأفضى اعتصام الرحيل إلى تنازل الترويكا عن الحكم سنة 2014، وتفعيل حوار وطني ساهم في حلّ الأزمة السياسية وتعزيز الانتقال الديمقراطي، وفوز تونس بجائزة نوبل للسلام. وبذلك بدا أنّ السلطة تعاملت، ولو نسبيّا، من منظور تفاعلي مع حركة الشارع. كما خاض التونسيون انتخاباتٍ عدّة، تخلّلتها حملات دعائية، تعبوية، متنوّعة وحرّة في جلّ شوارع البلاد. ولفت "اعتصام الكامور" النظر إلى أهمّية تنمية المناطق الداخلية وتأمين توزيع عادل للثروة. وتشكّلت حملات مدنية، رقابية، ضاغطة حرّكت الشارع مثل "مانيش مسامح"، "وينو البترول"، "حاسبْهم"، "اكبس"، "اتعلّم عوم" من أجل مساءلة السلطة التنفيذية وإعمال العدالة الانتقالية، وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، ووضع حدّ للإفلات من العقاب. ومن ثمّ، حرّرت الثورة الشارع الاحتجاجي، وجعلته مساهما في مأسسة مشروع الدمقرطة وتأمين توازن نسبي بين الحاكم والمحكوم.

من غير المستبعد في حال استحال الحوار والإصلاح أن تشهد البلاد انفلاتاً اجتماعياً ــ احتجاجياً، خارج الهياكل الوسيطة

أمّا قيس سعيّد فاستفاد من الحالة الديمقراطية في تونس، ونظّم حملاته التفسيرية في كنف الحرّية التي كفلها دستور 2014. وبلغ الحكم سنة 2019. وبعد تولّيه الرئاسة، اغتنم سوء إدارة حكومة هشام المشيشي جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية، والتجاذب السياسي الحاد في البرلمان، وظهور احتجاجات محدودة ليعلن حكم الاستثناء (2021/07/25) الذي جمع بمقتضاه السلطات الثلاث، وعطّل جلّ موادّ الدستور، وألغى هيئة دستورية القوانين، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء والبرلمان، وغيّر تركيبة هيئة الانتخابات، ودخل في صراع على الشارع مع قوى حزبية معارضة (حركة النهضة، التيار الديمقراطي، ائتلاف الكرامة، قلب تونس، حزب العمّال) ومنع جمعيات مدنية فاعلة (جمعية القضاة، هيئة المحامين). وبحسب مراقبين، حاول سعيّد تحشيد الناس لتأييد مبادرته بتغيير عيد الثورة، فلم يجد التجاوب الشعبي المأمول، ودعاهم إلى التظاهر دعما لقراره حلّ مجلس القضاء فلم يلبّ الدعوة إلا بضعة أنفار، واستدعى أنصاره الناس إلى الاستشارة الإلكترونية فعزفوا عنها، ولم يحتفل بحلّ البرلمان إلّا قليل. في المقابل، نجحت المعارضة، رغم عسكرة الشارع، في الوصول إلى ميادين الاحتجاج، واستقطاب الناس، والتسويق داخليا وخارجيا لاعتبار تدابير سعيّد انقلابا على الديمقراطية، ونظّمت مظاهرات احتجاجية مُعتبرة، مطالبة باحترام الدستور، والعودة إلى المسار الديمقراطي. ويبدو في ظلّ تعثّر مشروع 25 يوليو (2021)، وتدهور المقدرة الشرائية للمواطنين، واتساع دوائر الفقر وانحسار الحرّيات أنّ سعيّد في طريقه، بحسب ملاحظين، إلى أن يخسر معركة الشارع. ومن غير المستبعد في حال استحال الحوار والإصلاح أن تشهد البلاد انفلاتا اجتماعيا/ احتجاجيا، خارج الهياكل الوسيطة، تصعب السيطرة على حركته ومآلاته.

ختاما، كلّما جرى تهميش الهياكل التمثيلية للمواطنين، والتضييق على حرّياتهم ومعاشهم، تزايدت احتمالات احتكامهم إلى الشارع، تعبيرا عن وجودهم وللمطالبة بحقوقهم، ولا تكون سياسة الناس رشيدة، مستدامة ما لم تُنصت لنبْض الشارع وحركاته الاحتجاجية، المعبّرة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.