السياسة المصرية وسياقات العدوان على غزّة

24 نوفمبر 2023

وزير الخارجية المصري سامح شكري مع وفد عربي إسلامي لأجل غزّة في بكين (20/11/2023/فرانس برس)

+ الخط -

مع الطابع المفاجئ لحرب 7 أكتوبر بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل، انشغلت السياسة المصرية بمواجهة التهديد على الحدود الشرقية وفق المنظور التقليدي للأمن القومي، ولم تنشغل بإدانة أيّ من الأطراف، بقدر التحوّط للتداعيات المستقبلية وتأثيرها على الأمن الإقليمي. وعلى الجانب الآخر، يثير وضوح الخلاف بين مصر وإسرائيل بشأن الموقف من تقويض المقاومة وتهجير سكّان قطاع غزّة النقاش في خيارات السياسة المصرية تجاه التداعيات على شؤونها الداخلية والخارجية، وخصوصاً في غياب روابط إقليمية تَحدّ من الفجوة القائمة بين حركات المقاومة وإسرائيل.

أهداف السياسة الخارجية

استندت ملامح الموقف المصري إلى ثلاثة مصادر: بيان مجلس الأمن القومي في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وبيان رئاسة الجمهورية في 21 أكتوبر، وكلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في القمّة العربية ـ الإسلامية في الرياض في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي. فمن وجهة أساسية، لم تعلّق مصر على شن حركة حماس عملية عسكرية، بقدر انصراف اهتمامها بوقف الانتهاكات، واتهام سياسات الاستيطان وإغلاق القطاع فترات طويلة. على أية حال، اهتمّت مصر بالخروج من إدارة الأزمة للحلّ الدائم وإنهاء "الاحتلال الأجنبي" وإحلال السلام، هو ما يتطلّب تقييم الأداء العالمي تجاه القضية الفلسطينية، كما تضمّن أهدافاً تتعلّق بوقف إطلاق النار وسياسة التهجير أو النزوح القسري، كما طالبت مصر بتحقيق دولي في كل الانتهاكات.

وبشكل عام، حاولت مصر الجمع بين مستويي الحل الدائم والمؤقّت، وفق التزامات القانون الدولي، بحيث يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني ومع استمرار حلّ الدولتين. ونظراً إلى كثافة السلاح الغربي وسهولة انفلات الحرب، شكل احتواء الحرب واحداً من أهداف السياسة الخارجية لمنع خروج العمليات العسكرية والإنسانية عن السيطرة، حتى لا تدخل المنطقة في دائرة عنف مفتوحة وتهديد للأمن الأوروبي، ما يتطلّب تنفيذ القانون الدولي الإنساني. ولذلك، سارت في إجراءات الرّدع والاستعداد للحرب، لإدراك هشاشة الوضع الإقليمي والتحفّز الدولي لتنشيط أجواء حرب إقليمية. ولذلك، كان الحديث عن الوساطة والسلام خياراً استراتيجياً أقرب إلى اللياقة الدبلوماسية من دون أن يكون خياراً وحيداً.

حاولت مصر الجمع بين مستويي الحل الدائم والمؤقّت، وفق التزامات القانون الدولي، بحيث يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني ومع استمرار حلّ الدولتين

على أية حال، ارتكزت الخيارات المصرية على أولوية حماية الأمن القومي، وصوّرت التهجير سياسة لنقل الحرب إلى داخل الأراضي المصرية، وتصفية نهائية لقضية الفلسطينيين، ومن ثم اتّخذت مواقف لمنع تصنيف المقاومة منظمات إرهابية وتوطيد السيادة على سيناء، ما يشكّل ظهيراً مُتبادلاً بين القاهرة والقوى الفلسطينية في غزّة، ما يشكّل أرضية مُناهضة لمطالب القضاء على المقاومة أو اجتثاثها.

تحدّيات مُعقدة

مع اندلاع الحرب، واجهت مصر تحدّي الجاهزية الغربية لدعم إسرائيل، فمنذ الأيام الأولى، تسارعت الاستجابة الدولية فور اندلاع الاشتباكات، فقد قادت الولايات المتحدة حراكاً غربياً، ظهرت أبعاده في تنسيق المواقف في مجلس الأمن، الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، بحيث صارت الترتيبات السياسية والعسكرية متوازية ومتساندة، بقدرٍ يعكس التحضير لمعركة طويلة، تشابه فيها الخطاب الغربي عن الأمن الإقليمي وارتباطه بتعديل الخريطة الديمغرافية في قطاع غزّة وسيناء. وبدا حشد العتاد مناسباً لأهداف توسّعية تتجاوز القطاع لتعويض الإخفاق في الدمج السياسي والأمني لإسرائيل. وبغضّ النظر عن وجود تدبير سابق للحرب، يعكس حجم الترتيبات العسكرية وسرعتها حالة القلق الغربي على تحلّل المشروع السياسي. يمثل وجود حاملات الطائرات والأسلحة النووية في شرق المتوسط علامة واضحة على الإسناد الكامل، ما يفتح الطريق أمام أهداف إضافية.

وعلى مستوى أمن الحدود، تزايد التهديد مع إصرار الدول الغربية على تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، ثم بدت الحدود الشرقية تحت الخطر المباشر، وخصوصاً مع تقويض البنية المدنية في قطاع غزّة وتكدّس النازحين، ما يرجّح انخراط مصر في الحرب التي يمكن أن تتحول إلى إقليمية أو مواجهة الأعباء السياسية والأمنية للتهجير تحت تهديد السلاح الإسرائيلي والغربي الكامن في البحر المتوسط. ويتزايد العبء مع انشغال السلطة الفلسطينية بوضع ما بعد "حماس" وتفضيل أطروحات نزع سلاح المقاومة أو تدويل القطاع.

قامت السياسة المصرية على تقدير أن أجواء الحرب تتعدّى الرغبة في تقويض حركة حماس إلى دفع الغزّيين نحو الحدود المصرية، ولاحقاً، من الضفة الغربية نحو الأردن، ما يطيح الحل السلمي للقضية الفلسطينية

وفي ظل شيوع المجموعات المسلحة، يمثّل تزايد الحروب غير المتناسقة تحدّياً لانضباط القرار السياسي في بعض الدول. وهنا، تمكن الإشارة إلى وجود المنظمات المسلحة في العراق وسورية ولبنان واليمن، وتأثيره على مسار العمليات في قطاع غزّة، فهي تمثل قلقاً من جانب ارتباطها الوثيق بالقرار السياسي الإيراني وسهولة انخراطها في الحرب. ورغم البعد الجغرافي لمليشيات الحشد الشعبي عن التأثير على المصالح المصرية، تمثل عمليات حزب الله وجماعة الحوثي تهديداً مباشرا للمصالح المصرية، سواء في سهولة تدشين حرب إقليمية أو التأثير على الملاحة في البحر الأحمر.

توجّهات السياسة الخارجية

وبشكل عام، قامت السياسة المصرية على تقدير أن أجواء الحرب تتعدّى الرغبة في تقويض حركة حماس إلى دفع المدنيين/ المواطنين الغزّيين نحو الحدود المصرية، ولاحقاً، من الضفة الغربية نحو الأردن، ما يطيح الحل السلمي للقضية الفلسطينية. وعلى أية حال، قامت استجابة مصر على توجّهين: الأول، حيث العمل على موازنة التضامن الغربي مع إسرائيل من خلال بناء موقف يحول دون تصنيف "حماس" ضمن مكافحة الإرهاب، وتعطي تأويلاً يقوم على الربط بين تَسبب الاحتلال في الحل الشامل وتكرار الحروب منذ 2008. ولذلك، رأت مصر في الاجتماعات المتتابعة، سواء في مناقشات الأمم المتحدة أو في قمّة السلام أو اللقاءات الثنائية، فرصة لبناء موقفٍ مناظر للدول الغربية، يقوم على رفض تبرير الجرائم الإسرائيلية بادّعاء تصنيف "حماس" منظمة إرهابية. وفي هذا السياق، صاغت مع المجموعة العربية قرار الجمعية العامة لتظلّ المقاومة ضمن مقتضيات توازن الأمن في الأراضي الفلسطينية.

ارتكزت الخيارات المصرية على أولوية حماية الأمن القومي، وصوّرت التهجير سياسة لنقل الحرب إلى داخل الأراضي المصرية

وفي هذا السياق، واجهت مصر قيود المرور عبر معبر رفح. في البداية، حاولت بناء معادلة للمرور في الاتجاهين (خروج الرعايا الأجانب مقابل دخول المساعدات) لخفض فرصة التهجير أو الفوضى، وصارت مصر أمام بديليْن؛ إما الحصار التام أو فتح المعبر أمام المساعدات لتميكن السكان من البقاء. وهنا، تمكن قراءة الموقف المصري مفاضلة حَدِّية ما بين انتظار فتح المعبر وفق اتفاقية 2005 أو إدخال المساعدات تحت الحماية المسلحة. وبالنظر إلى تعدّد أطراف الحرب والردع المتبادل، يماثل دخول المساعدات تحت الحماية المسلحة إعلان الحرب. ولذلك، اتجهت إلى تحميل إسرائيل مسؤولية إغلاق الجانب الآخر من المعبر والقبول بفتحه جزئياً.

أما التوجّه الثاني، فيتمثل في ترتيب الوضع الداخلي وتأهيله للدخول في حرب. بدأ هذا التوجّه مع استعراض جاهزية الجيش، بداية من حفل تخريج الكليات العسكرية وانتهاءً بتفتيش الحرب. جاءت هذه التحرّكات في سياق نشر نموذج دعاية مماثل لأجواء حرب أكتوبر 1973، بحيث بدت الأجواء الداخلية متجانسة مع متطلبات الدفاع والأمن الخارجي. وبدا الخطاب السياسي تعبوياً وحاشداً، وجرى التعبير عنه في احتفالات تخريج الكليات العسكرية، وقمّة السلام، والتفتيش الحربي في الجيش الثالث، بالإضافة إلى إعلان خطة خمسية لتنمية سيناء، 6 نوفمبر، لتغيير الصورة الشائعة عنها أنها صحراء فارغة أو تمرّدها على سلطة الدولة. ولذلك، يقدّم إعلان الخطّة من مقر الكتيبة 101، مترافقاً بحضور شعبي، ردّاً على تكرار إغراء الغرب بتمويل تهجير والإعفاء من الديون.

تكاملت مواقف مشيخة الأزهر، كمؤسسة رأي، مع توجّهات الدولة في مكافحة الانفلات الإقليمي، ووقف الانتهاكات ضد الفلسطينيين وثني الغرب عن التعصّب

وفي هذا السياق، تكاملت مواقف مشيخة الأزهر، كمؤسسة رأي، مع توجّهات الدولة في مكافحة الانفلات الإقليمي، ووقف الانتهاكات ضد الفلسطينيين وثني الغرب عن التعصّب، فقد رسمت البيانات المتتابعة الملامح المشتركة مع قضايا الأمن القومي. كما استعاد بعض الإعلام المصري مصطلحات حرب أكتوبر 1973 وأجواءها في تغطية أحداث غزّة، وبالإضافة إلى إعادة نشر أناشيد تلك الفترة، فقد صارت كلمات العدوان وجيش الاحتلال سائدة في التغطية الإخبارية، واستعادة ثقافة العداء، ما يعكس إدراكاً لشدة التهديد وقابليته للانتشار في الإقليم.

وفي التوجه الثالث، حيث ترى مصر اندلاع الحرب نتيجة لتقويض السلام، سواء للتوسّع في الاستيطان أو الحصار المستمر على قطاع غزّة. ولذلك، أكّدت استئناف المفاوضات على أساس حل الدولتين والقدس الشرقية، استناداً إلى المبادرة العربية التي تُعتبر الحد المقبول، رغم عدم كفايتها، للحل السلمي. ويرجع الاستمرار في طرحها إلى صعوبة تأسيس إطار جديد في ظل تشتّت المواقف العربية في مقابل التساند الأميركي والأوروبي؛ فلدى القاهرة إدراك بأن فتح المبادرة للتعديل سوف يؤدّي إلى انهيارها.

تحرّكات السياسة الخارجية

مع اندلاع الحرب، بدأت مصر عملية دبلوماسية، استقبلت فيها كثيرين من ممثلي الدول بمستويات مختلفة، بداية من رؤساء الدول ووزراء الخارجية، وانتهاءً بمديري المخابرات، كما شاركت في صياغة مسوّدات قرارات الأمم المتحدة. وقد شكلت العلنية جزءًا من الأداء المصري مع الزوار الأجانب، بشكلٍ لم يكن معهوداً في التعامل الدبلوماسي، فمنذ زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى القاهرة، في 15 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، حرص الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على توضيح موقف الدولة في أثناء انعقاد اللقاء، لتكوين صورة إعلامية متماثلة لروايتي مصر والولايات المتحدة. ورغم تعدّد اللقاءات، لم تظهر خطّة عمل مشتركة، واقتصرت على وعود أوروبية وأميركية بفتح الاحتلال ممرّات إنسانية، من دون محاولة تطوير المناقشات لكيفية وقف الحرب، لاستحواذ أمن إسرائيل على التفكير الغربي على حساب الديمغرافيا الفلسطينية. ولذلك، كانت المناورة المصرية بحل مُشكل الأمن الإسرائيلي داخل الأراضي المحتلة، وليس على حساب الأمن الإقليمي، ونقل عبئه إلى دول الجوار. وبجانب مُجالدة الموقف الغربي، بدا الهدف الأساسي في تفكيك الرواية الأوروبية اعتبار أمن إسرائيل منفصلاً عن الأمن الإقليمي.

ورغم تعقيدات الحرب، بدت زيارات المسؤولين الغربيين أقرب إلى استطلاع المواقف العربية عن تهجير الفلسطينيين وتصنيف "حماس" إرهابية، وفضّلت الدخول المباشر على مجريات الحرب وتقويض الوساطة الإقليمية، ليرجع الصراع إلى مرحلة ما قبل اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية (1979). ولكن، مع رفض مصر كل المقترحات، تدرّجت الخطط الغربية من تقويض المقاومة في غزّة واستبدالها بإدارة دولية إلى إلحاق القطاع بالإدارة المصرية، أو إخضاعه للجنة دولية كما جاء في اقتراح رئيس المخابرات المركزية الأميركية وليام بيرنز في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، ما يشكّل تخفيضاً في التطلّعات الأميركية من الحرب.

تواجه السياسة المصرية أعباء الفجوة ما بين قدرة المقاومة على الردع (أو الصمود) وتماسك مواقف الدول الغربية

ويمكن النظر إلى دعم الاتحاد الأوروبي مصر والأردن بما يزيد عن عشرة مليارات دولار واحداً من مؤشّرات الاحتواء وليس التصعيد، ما قد يرجع هذا التغير، جزئياً، إلى تماسك الفلسطينيين واستمرار قوة الردع لدى المقاومة، ما شكّل ثغرة أمام السياسات الغربية. وبالإضافة إلى انكشاف وضع إسرائيل، يرجع تجانس المواقف الغربية إلى القلق من تنامي الهوية المحلية في الشرق الأوسط، وتجاوز تطلعات الأجيال الجديدة قدرات المؤسّسات الفلسطينية، كما أن هناك محاولات بعض البلدان تنويع سياستها الخارجية.

ورغم النجاح النسبي في وقف التهجير وتدويل غزّة، إلا أن انعقاد قمة السلام في القاهرة، والعربية ـ الإسلامية في الرياض، بالإضافة إلى اللقاءات الثنائية، لم تؤدّ إلى نضج آلية ثنائية أو ثلاثية للتعامل مع مجريات الحرب، واقتصرت المشاورات بين الدول على اتصالاتٍ أو لقاءات حسب الحاجة، رغم وجود فرص للتنسيق بين مصر والأردن وقطر وتركيا، لم تتّجه البلدان لهيكلة التواصل السياسي حتى في نطاق الإغاثة الإنسانية، غير أن ما كشفته قمّة القاهرة للسلام، 21 أكتوبر، هو استقرار المواقف الغربية على رفض التفاوض على أمن إسرائيل وقليل الاهتمام بحقوق الحياة في غزّة.

توضح هذه السياقات أن السياسة المصرية تواجه أعباء الفجوة ما بين قدرة المقاومة على الردع (أو الصمود) وتماسك مواقف الدول الغربية. ولذلك، كانت تفضيلات الموقف الدفاعي أكثر وضوحاً في تناول التغيرات اليومية في نطاق التحوط لحماية السيادة الوطنية وتجنّب الانزلاق إلى حربٍ متعدّدة الأطراف. وبالتالي، يكون متوقّعاً تطوير السياسة الخارجية على مساري مراجعة سياقات الحركة الوطنية الفلسطينية والاستفادة من الفروق بين مواقف الدول الغربية، سواء للتوصل إلى هدنة مؤقتة أو الانتقال إلى بديل أكثر فاعلية في منع انهيار قطاع غزّة.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .