السلطوية ... ما تُخبرنا به مواقع التواصل
تبدو السلطوية هي الأصل، الرغبة الجامحة في الاستبداد، والاستمتاع به، واعتبار القدرة عليه دليلاً على نجاح صاحبه، والتمادي فيه دليلاً على قوته، وتجاوزه حد الجريمة المستترة إلى الفجور المعلن دليلاً على القوة والمنعة والنفوذ. تخبرنا بذلك أنظمتنا، مصر دليلٌ واضح، وغيرها من الأنظمة العربية، بدرجاتٍ متفاوتة. وتخبرنا به مواقع التواصل الاجتماعي أيضا، شيء عن السلطويين وأشياء عن مناهضيهم. تبدو المفارقة ممتعة، كما أنها فخّ، قد يقع فيه عشّاق "المختلف"، فيبرّرون الاستبداد السياسي بوصفه نتيجة طبيعية لاستبداد المجتمع، ويمرّرونه، بوصفه حقيقة الأشياء (فيما قيم الحريات وهمٌ وزيف)، ويحيلونه إلى "الناس" لا السلطة الحاكمة تشتيتا وتضليلا متعمّدا أو غير متعمّد. أيّهما الأصل، استبداد الحاكم أم المحكوم؟ سؤالٌ غير صعب، كما يبدو، على الأقل في مجتمعاتنا. أنظمتنا شديدة المركزية، وقادرة على صبغ كل شيء بصبغتها، المجتمع وثقافته وسرديّته عن نفسه وتاريخه، وتصوّراته عن حاضره، تديّنه، وفنونه، وآدابه. مساحات المقاومة موجودة، لكنها استثنائية ومتّهمة طوال الوقت، حتى أذكى معارضي السلطة لا يسلم أحيانا من التورّط في سرديّتها، خوفا أو طمعا أو سذاجة الواثق والمنتفخ من دون مبرّر.
لا تفوتنا، هنا، الإشارة إلى تقدّم أساليب الأنظمة السلطوية، (السياسية والمعرفية) وإبداعها في تحديث حيلها، وقدرتها على تطويع خطابات الدين .. القانون .. الحريات ..، واستغلال ثغراتها، والمرور منها، بل والسكن فيها والاستمرار فيها. استبداد المجتمع، إذن، نتيجة طبيعيّة ومباشرة، لاستبداد السلطة، ولكن .. هل البداية هي التخلص من استبداد السلطة؟، تُخبرنا تجارب الربيع العربي أن العلاقة بين استبداد السلطة ومجتمعها صارت أكثر تعقيدا وتركيبا مما نتصوّر. يغيب المستبدّ فيستدعيه مجتمعُه، تقاوم "كتلة حرجة" لإزاحة طاغية، ثم تعيد إنتاج آخر، رغما عنها، استجابةً للشارع، وانسياقا، حتميا، وراء نوازع النخب ذاتها. لا بداية محدّدة تُفضي إلى نهاية، إنما هي بداياتٌ متوازية، لا تعارض بينها، أهمّها، وربما أصعبها، نقد النخب استبدادَها، بقسوة، واشتغالها على تجاوزه، من دون التخلّي عن نقدها أنظمتها الاستبدادية.
تُخبرنا "السوشيال ميديا" بأشياء قد تبدو، في ظاهرها، عادية، لكنها ليست كذلك. أتجاوز هنا حسابات "عادية"، تمارس التنفيس المشروع حد الشتيمة والصراخ، إلى حسابات "نخبٍ" شغلتها "دمقرطة" المجتمع وأفكاره وممارساته. تمنحنا "السوشيال ميديا" سلطاتٍ محدودة، ومن ثم مساحات، خفيفة، لاختبار قدرتنا على مقاومة نوازع الاستبداد "اللابدة" بحكم النشأة والتكوين، والاشتغال عليها، وتجاوزها. وتأتي النتائج مدهشة في كم التشابه، في الكيْف لا الكم، بيننا وبين خصومنا السلطويين، حتى أنك تلمح في شخصيات أغلب مثقّفينا "بشّار" أو "سيسي" صغيراً، ينتظر مساحة أكبر ليكبر و"يضرب من ضربوه". يستخدم "البشر الطبيعيون" "البلوك" (والبلوك سلطة) عقابا على الإساءات الأخلاقية، فيما يستخدمها عشرات المثقفين العرب (أتحدّث هنا عن متابعة جادّة ومتعمّدة) عقابا على مجرّد الاختلاف.
يخشى أغلبنا، حد الفوبيا، فتح التعليقات، يُغلقها إلا على الأصدقاء المختارين بعناية، وفق معايير مزاجية و"قبلية"، ويحذف من الأصدقاء من يتجاوز حدود التهليل والتطبيل إلى نقد الأفكار، ولو على خفيف. ولا يكتفي "المثقّف العربي" بخيارات حذف المختلف أو منعه، إنما يتجاوزهما إلى التشهير به وانتهاكه و"تعذيبه" بطرق مختلفة تسمح بها "بيئة" السوشيال ميديا، بعضها يشبه ممارسات أجهزة الأمن في بلادنا، وأذرعها الإعلامية، وكتائبها الإلكترونية (مع فارق الإمكانات) ... من الخوض في أعراض المختلفين والمزايدة على دينهم ووطنيّتهم، إلى تصنيف المختلف، افتراء، وفق محدّد "إما معي أو ضدّي"، دولتي أو مخبر (وأوصاف أخرى أكثر بذاءةً وشعبوية) لمجرّد قبوله الحوار مع السلطة، أو إسلامي مستتر، أو من خلايا الإخوان المسلمين النائمة، لمجرّد دفاعه عن حقوقهم بوصفهم مواطنين وبشرا، ناهيك باتهامات "ثقافية" بالرجعية والظلامية ورُهاب المثلية أو اختراع اتهامات كوميدية، مثل المؤامرة على الإسلام والعلمانية والعلموية والنسبوية والإنسانوية والإلحاد. أيضا لمجرّد الاختلاف، من دون تفكيك فكرة واحدة أو مناقشتها، ومن دون تجاوز سلطة الحسابات الشخصية، و"العوالم الافتراضيّة"، فماذا لو كانت لدينا "سلطة حقيقيّة"؟