الدبّة التي قتلت صاحبها

06 يوليو 2022

(ياسر صافي)

+ الخط -

للمرّة الأولى، قرّرت أن أضع نظارتي بداخل علبتها الأنيقة. لو أسهبتُ في وصف قيمة نظارتي التي أصبحت تلازمني طوال الوقت، لاحتجت أضعاف المساحة المخصّصة لهذه الزاوية، ولكن الوصف الأدق أنني حين تضيع مني مدة بسيطة أصبح مثل الإنسان الذي يفقد ذاكرته، أو مثل أي جهاز إلكتروني فقد برمجته، فلم تعد له فائدة. ولذلك، هذه المرّة التي خرجت فيها من البيت، ودسست النظارة في علبتها الأنيقة، ثم ألقيت بها في فراغ حقيبة يدي المعتم، وقد فعلت ذلك ظنّاً مني أنني سأحافظ عليها، وسأعثر عليها بسرعة في جوف الحقيبة، بمجرّد أن ألمح لون العلبة الأحمر الزاهي، وأنني حين أنشغل في الأمر الذي خرجت من أجله لن أضيّع النظّارة أبداً.

وأمام هذه الأسباب، رقدت النظارة في علبتها لأول مرة، وأنت لا تعرف لماذا لا تضعها في علبتها التي صحبتها منذ حصلت عليها من المركز المتخصّص للبصريات، كما يطلق عليه، ولكنك أبعدتها عن العلبة وبتّ تفقدها كل يوم عدة مرّات، ثم تعثر عليها في أماكن لا تتخيّلها، ويحدُث ذلك كله في محيط بيتك الصغير، ولم يحدُث أن أضعتها خارجه، ولم تنكسر أو حتى تنخدش عدساتها، رغم أنك تُلقيها في جوف حقيبة يدك المليئة بأشياء سخيفة. ولكن معظم النساء يضعنها في حقائبهن، وتلك كفيلة بأن تتلف النظّارة بطريقة ما، مثل مبرد الأظفار وسلسلة مفاتيح لبيتك القديم وسلسلة أخرى للبيت الحالي، ودبابيس الشعر والملابس الحادّة الأطراف، ولكن النظّارة تبقى صامدة، وتدس يدك في الجوف المعتم، وتلتقطها لكي تقرأ على عجل تاريخ صلاحية منتجٍ ما في المتجر الكبير.

في يوم ما، أضعت النظّارة، وعدت إلى البيت، ولم تكتشف أنك قد أضعتها إلا حين بحثت عنها في الحقيبة، وأنت تجلس على حافّة سريرك، وتحاول أن تستريح فوقه، ولكن اكتشاف فقدها جعلك تقفز من فوق السرير كمن لدغتك أفعى، واستعدت ذاكرتك سريعاً لكي تتذكّر آخر مرة استخدمتها، واحتمالية المكان الذي أضعتها فيه. وهكذا كنت أفعل، فعدت أدراجي حيث كنت، وتسلمتها في علبتها الأنيقة، وسرعان ما حرّرتها منها وألقيتها دونها في حقيبة يدي ومضيت.

فكّرت كثيراً في حادثة ضياع نظّارتي، بعد أن وضعتها أول مرة في حافظتها. وهكذا جاءت الأحداث سراعاً، أو أن نظّارتي تلك الرفيقة الصامتة قد أزاحت غشاوة عيني، خصوصاً أن ذاكرتي الأمينة الملهمة قد ذكّرتني بموقفٍ حدث مع ابنتي في المدرسة الثانوية، حين عانت من اضطهاد زميلة منافسة لها، وحملت نفسي بكل خوف الأم وغضبها إلى ناظرة المدرسة التي تقبلت ثورتي بكل هدوء، والتفتّ إلى ابنتي قائلة: اقتلعي شوكك بنفسك. وفي ذلك اليوم فقط، أدركتُ أنني، وكثيرين من الآباء والأمهات، نقع في فخ العناية الزائدة بأولادنا، ونفرط في رعايتهم، ولا نصدّق أنفسنا أنهم قد كبروا وأنهم سيعيشون إلى زمانٍ غير زماننا، كما قال الإمام علي ابن أبي طالب، ولكننا ندفع ثمن حبّنا وحرصنا غالياً، ويدفع الأبناء الثمن الأكثر فداحة أيضا.

قلت لابنتي، بعد أن تأخّر قولي سنوات طويلة: اقتلعي شوكك بنفسك، وذلك أمام بكائها مثل طفلةٍ لا تجيد التصرف أمام مشكلة صغيرة عابرة مع الشاب الذي اختارته لكي يكون شريكاً لحياتها، وأمام لوْذها بي كقُطَيْطة مغمضة العين، شعرتُ بفداحة ما فعلت، وشعرتُ بأنني يجب أن أغيّر اتجاه بوصلتي في التعامل مع أولادي، وبأسرع وقت، قبل أن يفوت الأوان.

لا أدري ما الحب الذي يجعلنا قد ندمّر شخصية أولادنا، ولماذا نتصرّف مثل الدبّة التي أرادت أن تحمي صاحبها من ذبابة، فألقت فوق رأسه حجراً وهو نائم فقتلته، فالحبّ الطاهر الساهر قد يكون سلاحاً ذا حدّين، أو قد يكون مقتلةً لأولادنا ونحن فخورون بما نفعله لأجلهم، وننام قريري العين كل ليلةٍ بأننا دافعنا عنهم، وأزلنا الشوك من طريقهم بكفوف أيدينا الدامية.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.