الدالاي لاما ليس وحيداً

15 ابريل 2023
+ الخط -

إذا اعتبرنا أن سلوك القائد الديني الأعلى للبوذيين التيبيتيين، الدالاي لاما، حين طلب من طفل تقبيل لسانه، بأنه موروث ثقافي معروف في التيبت، فإن اعتذاره عنه يلغي هذا الموروث، ويضع الرجل تحت مجهر، سبقه إليه رجال دين عديدون في العالم، خصوصاً المنتمين للكنائس الكاثوليكية في دول غربية عدة. من حق الناس الشعور، وهنا لا يمكن القول إن لهم حقاً أو باطلاً في ذلك، بل الحقّ في الشعور فحسب، أن رجل الدين هو كائن "مقدّس"، محاط بهالة "قدسية"، نابعة من فهم كل إنسان إلى أي دينٍ انتمى. لكن من حق الناس التفكير بما يسمح بإزالة هذا الوشاح "المقدّس" عن بشرٍ، لا أنصاف آلهة ولا آلهة. والتفكير هنا ينبثق من حقيقة واحدة مفادها بأن أي رجل دين هو رجل أولاً، أي كائن بشري، له ما له وعليه ما عليه، ويتمتع بالخصائص الفيزيولوجية نفسها التي نتمتع بها نحن معشر الناس.

الأمر مشابه لمهندس أو طبيب أو عامل في مرآب أو عامل نظافة .. قد يكون جميع هؤلاء مبدعين في أعمالهم وبارعين في إطارها المهني، لكنهم على المستوى الشخصي قد يكونون من الناس الذين لا يمكنك التفكير بترك أطفالك معهم دقيقة واحدة. الأمر نفسه بالنسبة لرجال الدين، مع فارق واحد، أنهم يستمدّون سلطة زمنية من وحي السلطات الروحية ـ الدينية. لذلك، إذا راقبنا سلوك عديدين منهم، نجدهم يتصرّفون وكأن الأولوية لهم في المجالس واللقاءات الاجتماعية، وكأنهم على حقّ دوماً والبقية منا "لا يملكون ميزة التفكير ولا الرأي الحكيم". طبعاً، لا يُمكن التعميم هنا على جميع رجال الدين، تماماً كما لا يجوز ذلك على المهندسين والأطباء وعمال المرائب والنظافة. هناك كثيرون ممن يحترمون أنفسهم ومِهَنِهم، وهو أمر غير مرتبطٍ بما يفعله الإنسان، بل بما يرغب في أن يفعل. تريد أن تُحترم؟ احترم الناس إذاً. تريد أن تتصرّف بفوقية نابعة من إحساسك بأنك تفهم الدين؟ إذاً لا بدّ من أن تطاولك سهام الانتقادات ونظرات الاستهزاء.

لا قدسية لإنسان على آخر، مهما كانت مهنته ورتبته الدينية. لا الدالاي لاما ولا الإكليروس ولا الشيوخ ولا الحاخامات ولا كل رجل دينٍ محسوب على طائفة توحيدية أو غيرها، هو أفضل من غيره، أو يحقّ له استباحة حرية غيره، بل والاعتداء على غيره. القانون وحده قادر على ضبطه. والقضاء بشكل عام ليس مخصّصاً لأمثالنا من البشر فقط، بل لجميع البشر "المقدسون" منهم وغير "المقدسين". ومع أننا في عالمٍ تبقى فيه سطوة رجال الدين غالبة، إلا أن التاريخ لا يعود إلى الخلف. سيأتي يوم تتغير فيه قصص عدة، كما حصل مراراً في التاريخ، لا في الثورة الفرنسية فحسب، بل في روما القديمة، حين اندثرت الوثنية لمصلحة المسيحية، لأن الأولى لم تعد تلائم عصراً صاعداً، بل أحكم قادتُها الدينيون على مفاصل السلطة الزمنية. كانت شبه ثورة، انتهت إلى وفاة الوثنية كدين الإمبراطورية. التاريخ لا يعود إلى الخلف.

ولفهم حقيقة رجال الدين أكثر، تخيّلوا مثلاً لو أن جهيمان العتيبي، مقتحم الحرم المكي في عام 1979 بادّعاء أن صهره محمد بن عبد الله القحطاني هو "المهدي المنتظر" طالباً مبايعته، كان رجل دين؟ أكثر من ذلك، تخيّلوا لو أن ديفيد كوريش، الذي ادّعى أنه "المسيح" في عام 1993 وتمركز في مكان جعله حصناً في ولاية تكساس الأميركية، كان رجل دين أيضاً؟ فلو كان هذان رجلي دين، لكانت المعاناة أكثر صعوبة على المجتمعات التي وُجدا فيها، وكانت هالة "القدسية" المُسبغة عليهما أكثر حدّة من التفكير الواعي.

ليس الدالاي لاما وحيداً، بل هناك جحافل منتشرة بيننا تشبهه. تستغلّ طابع "القدسية" لفرض سطوتها على الناس. إن لم تكن هذه خطيئة بالمفهوم الديني، إذاً ماذا تكون؟

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".