الخروج من الكرنفال

01 ديسمبر 2024

(ياسر صافي)

+ الخط -

ليس أفضل من كلمة "الكرنفال" تعبيراً عن مشهدِ العالَم اليوم. كلمة حمّالة أوجه، تنحدر من شجرةٍ سلاليّةٍ متشعّبة، التصقت بطقوس الكاثوليك الذين يمتنعون عن أكل اللحوم طوال أيّام الصوم الأكبر الأربعين، وأصبحت تشهد ذروتها الاحتفاليّة في الأيّام الثلاثة التي تسبق أربعاء الرماد. لا تتنكّر الكرنفالات الشهيرة لهذا الإرث المسيحي، من البندقيّة إلى النوفال أورليان، ومن نيس إلى ريو دي جانيرو، إلاّ انّ لها جذوراً أبعد من الزمن الكاثوليكي، حاضرة في الطقوس الوثنيّة أيضاً، يمكن العثور عليها في أفريقيا وأستراليا مثلاً، بأشكال أكثر عراقة، وبمرجعيّات محليّة خالصة.

تطورّت الحالةُ الكرنفاليّة حتى اخترقت دائرة الاحتفالات، وتسلّلت إلى كلّ الحقول، وعمّت جميع البلاد. شيء وحيد لم يتغيّر: الأقنعة. أقنعة تسيطر على المشهد وتأكل لحم لابسيها قبل أيّام الصوم وبعدها وفي أثنائها. تختفي خلفها الوجوه، لأنّ من المطلوب أن تختفي معها ضرورةُ وجود مضامين لكلمات مثل "الحقيقة" أو "المبدأ" أو "القِيم" أو "العدل" أو "الحرية". إنّه السقوط المدوّي لفكرة المصداقيّة، الضروريّة للتعايش بين الغريزة وكوابحها، بين الفرد وجماعته، بين الدولة والعالم.

لا أحد يخرُج رابحاً من حرب تدمير المصداقيّة. مصداقيّة القوانين والشعارات والقيادات والإعلام والمنظّمات الدوليّة والقِيَم. لا أحد يخرُج رابحاً حين تفقد الشعوب ثقتها بالمنظومة الأخلاقيّة التي تحكُم المجتمع ككلّ، فتفقد ثقتها في المنظومة السياسيّة، وتستقيل من المواطَنة، وتكتفي بالفرجة حتّى بلوغ الأمر الحدّ، عائدة كلّ مرّة إلى الانطلاق من المنطقة الصفر، أي من تدمير الذات والآخر عبر تدمير الحلم، وكأن لا تاريخ ولا تراكم ولا عِبَر. إنّه هو إلاّ رقص في كرنفال.

في ثلاثينيات القرن العشرين، كتب البرازيلي جورجي أمادو روايته الأولى عن بلاده وهي تبحث عن ذاتها، وسمّاها "بلاد الكرنفال". بلاد تشبه معظم بلاد العالم في بدايات هذا القرن الجديد. تبحث عن وجهها فلا تراه إلاّ منعكساً على مرايا مهشّمة: ما العمل؟ كيف الخلاص من البؤس والشقاء والتخلّف؟ أيّ نهج هو الأصلح في الاقتصاد والحُكْم؟ أيّ أخلاق؟ أيّ حداثة وأيّ تقاليد؟ أين مفتاح سعادة الإنسان: في الدين؟ في السياسة؟ في العلم؟ في اعتبار غاية الحياة الوحيدة هي الموت؟ في الكفّ عن نشدان السعادة والتخلّص من الأسئلة والأحلام؟ في التخلّي عن المقاومة والاستسلام للأقوى والرضا بحياة البهائم التي لا تسأل ولا تشقى؟ أسئلة طرحها أمادو مواجهاً كرنفال البرازيل في بدايات القرن العشرين، وكأنّها أسئلتنا اليوم. فهل طرحناها على أنفسنا بالعمق نفسه، وبالجمال نفسه؟

نحن في حاجة إلى أن نفضح كرنفالاتنا بأنفسنا، حتّى لا نظلّ نتلقّف كلّ ما يصنع وعينا عن طريق "الإملاءات". لا كينونة لمن ليس حرّاً في نحت كيانه. الحريّةُ تُنتَزَع ولا تُعطَى. الحريّة لا تُرتَدَى كقناع في كرنفالٍ راقص. الحريّة هي النصّ الوحيد الذي لا يُنقَلُ عن نصٍّ سواه. الحريّةُ المنقولة قناعٌ من أقنعة العبوديّة. عبوديّة المتلقّي في مواجهة وسيطه، بينما هو في حاجة إلى أن يعيش تجربته من دون وسطاء.

في روايته الجميلة، يؤكّد أمادو على لسان إحدى الشخصيّات أنّ من المستحيل اليوم كتابة قصّة جديدة عن الكرنفال. "ما يُكتب هو دائماً القصّة نفسها... من الممكن طبعاً استبدال الفتاة بالزوجة أو الأخت أو الجدّة... ولكنّها دائماً القصّة نفسها...". الغريب أنّنا نحن أيضًا نكرّر القصّة نفسَها، قصّةَ عيش الحداثة، عن طريق نسْخِها حرفًاً بحرف. صرنا ننقل كلّ شيء بهذه الطريقة الساذجة، كدتُ أقول الحيوانيّة، لولا أنّ الحيوانات أذكى من ذلك بكثير. حتّى الحريّة أصبحنا نعيشها عن طريق الاستنساخ. ننسخ الوطن إلى منفى أو المنفى إلى وطن. ننسخ المظاهرات. نستورد لها شعاراتها و"إيشارباتها" من خارج الحدود.

اتّسعت دائرة الكرنفال حتى حاصرتنا الكائناتُ الكرنفاليّة من كلّ جهة، في كلّ حقل، في كلّ فضاء. أصبحت الزعاماتُ والأيقونات في معظمها أقنعة كرنفاليّة، لا تُخفِي وجوه حامليها بِقَدْرِ ما تبالغ في فضح ملامحهم. للكرنفالات وظائفُ لَعِبيّة وتطهيريّة بلا شكّ، لكنّها مرتبطة بمحدوديّتها في الزمن. وهي تَفْسَدُ (وتُفسِدُ) بطول الاستعمال. إنّها وقتٌ مستقطعٌ تستأنف بعده الحياةُ مسيرتها، وإلاّ بتنا أمام ظاهرةٍ مرَضيّة. علينا أن نعرف كيف نعلن بأنفسنا عن لحظة الخروج من الكرنفال.

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.