الحشد الشعبي في حلب
واقعيٌ جدا افتراضُ جهْلِ رئيسِ الوزراء العراقي، الحالي وسابقيه، بالتحرّكات الخارجية للجهات العسكرية / المليشياوية الخاضعة لسلطته. إنه يجهل حتى تحرّكاتِها الداخلية، فالعلاقةُ بين الحكومة والجماعات المسلحة هي بين سلطتين، وإنْ كانت قانونيا واحدة. ومفهومٌ تماما، بعد اغتيالات واختطافات جمةٍ وقفت وراءها كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وأقرانها، أن خوفا مشروعا يمنع كتّابا وناشطين موجودين في العراق من استنكار واسع لذهاب المسؤول الميداني الأبرز في الحشد الشعبي، أبو فدك المحمداوي، إلى سورية في أثناء بحث الناس عن ناجين وقتلى وسط أنقاض الزلزال وبحثهم عمّن يدعمهم، بغض النظر عن تصنيف جغرافيا الأضرار بين مناطق النظام والمعارضة. أما هو فكان داعما نظام الأسد، وليس الضحايا، خارجَ السياقات الرسمية المعلنة للحكومة. بل أعطى نفسَه الحقّ في قول كلامٍ ساخر وجنسي عن نساء الضحايا، كما تسرّب في فيديو متداول. ما هو غير مفهوم أن يكتسب مِثلُه حصانةً سياسية مستمرّة، وأن يصبح وجودُ مقاتلين أجانب، لأسباب دينية أو طائفية أو قومية، خارجَ بلدانهم أمرا معتادا.
مَن هذا الشخص، ولماذا هو مستفِزّ إلى هذه الدرجة؟ في إحدى ليالي ديسمبر/ كانون الأول 2019، أغارت مجموعةٌ مسلحة على تجمعِ معتصمين من حراك تشرين بمنطقة الخلاني وسط بغداد. ضحايا الغزوةِ كانوا 23 قتيلا وعديدا من المخطوفين والجرحى. اتهمت "هيومن رايتس ووتش" السلطاتِ الأمنية، خلال عهد عبد المهدي، بتسهيل ارتكاب كتائب حزب الله الجريمة. وقتها، تداوَل ناشطون وشهودُ عيان اسما، لم يكن مشهورا خارج صفوف الجماعات المسلّحة، باعتباره مسؤولا في الكتائب والمدبر المباشر لإرسال القتلة. هو عبد العزيز المحمداوي المعروف بـ"الخال" و"أبو فدك".
بعد نحو شهر، اقتحم متظاهرون تابعون للحشد مقرَّ السفارة الأميركية. تصدّر المقتحمين قادةُ مليشيات ومسؤولون رسميون. وتشير معطيات إلى أن المخطط التنفيذي المباشر للاقتحام كان المحمداوي نفسه. يبدو أنها القشة. أغارت درون أميركيةٌ وقتلتْ قائدَ فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، ومعه أبو مهدي المهندس. كان الأخيرُ رسميا رئيسَ أركان الحشد الشعبي وفعليا قائدَه. هنا برز اسم المحمداوي مجدّدا. اختير خلفا للمهندس، ما أدّى إلى خلافات. من جهة، المرتبطون بالمرجع السيستاني تحفظوا، ومن جهة أخرى، رفَضَه علانيةً مقتدى الصدر ومنَع التعاملَ معه.
وسط صراع النفوذ، وجودُ مليشيات أجنبية هنا وهناك أصبح معتادا في السنوات الأخيرة
شخصٌ متهم بقتل متظاهرين، ومرتبطٌ عضويا بطهران، ويُنظر إليه متورّطا في اغتيالات واختطافات، يُكافَأ بوضعه في منصبٍ بارز بدَلَ إخضاعه لتحقيق قضائي مستقل ونزيه وغير خائف إلا من القانون. ولولا التوازنات الدولية وإدراج واشنطن اسمَه في القوائم السوداء، لأمكن أن يسمع به، وأمثالِه، مرشّحا لحكم البلاد. يبدو الأمر طبيعيا في بلدٍ كهذا. يعيش العراقيون راهنا تجربةَ منظومة حكم فيها كثيرٌ من هذه الأسماء. جرَّبوا الأمرَ سابقا أيضا، عندما اعتلى حكمَهم شخصٌ كان كلُ رصيدِه وقتها قيادةَ مليشيا جهاز حنين التابعةِ لحزب البعث في ستينيات القرن الماضي، ومشاركتَه في محاولة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق (بدوره تسبب بقتلٍ كثير) عبد الكريم قاسم. المقصود هنا الرئيسُ الأسبق صدام حسين (أبو عدي).
قصة "أبو"، وهي في أحد أوجهِها تعبيرٌ عمن يرون أنفسَهم آباءَ المسلمين والعرب والرعيةَ والأتباع والأنصار... عادتْ لتصبح هويةَ زعامات الجماعات الأصولية المتشددة عابرةِ الحدود؛ أبو مصعب الزرقاوي، أبو أيوب المصري، أبو بكر البغدادي، أبو مهدي المهندس، أبو حامد توسلي، أبو محمد الجولاني، أبو علي العسكري، أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، والآن أبو فدك المحمداوي. الجامع المشترك بين هؤلاء، إضافةً إلى ارتكاب ما تشفق النفسُ منه، هو أنهم عابرو حدود. كلهم قاتَلوا خارجَ حدود بلدانهم ضمن اصطفافات جماعات دينية، وليس دولا، تُقاد من عاصمتيْن بدرجة أساسية، طهران وأنقرة. كان هناك غيرُهما. دمشق في السابق، مثلا، واحدةٌ منها، إذ دفعت جهاديين إلى العراق تحت غطاء مقاومة الاحتلال، ثم انقلب كثيرٌ منهم، وبينهم الجولاني، على نظامها بعد الحراك الثوري، أو استفاد من وجود بعضِهم لإضفاء صفة الإرهاب على خصومه.
وسط صراع النفوذ، وجودُ مليشيات أجنبية هنا وهناك أصبح معتادا في السنوات الأخيرة. هناك محور "الممانعة" الممتد من أفغانستان حيث لواء فاطميون مرورا بالعراق حيث عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله ومنظمة بدر وغيرُها، وانتهاء بلبنان مع حزب الله. على الجانب الآخر، يوجد اصطفاف "الخلافة" المترامي، بدءاً بالصين عبر الحزب التركستاني الإسلامي وانتهاء بطرابلس الغرب، حيث قوة الردع وكتيبة ثوّار طرابلس. بصرف النظر عن الخوض في تعقيدات تفسير هذا الواقع، إن مِن نتائجه الواضحةِ سرقةَ محاولات التغيير المحلية في البلدان الناطقة العربية وغيرها من البقاع ذات الغالبية المسلمة، وتحويلَها إلى فرص للنفوذ والتنازعِ المستعصم بالكراهيات العقائدية والطائفية على مدى عشرين عاما. وبينما تمتلك تركيا وإيران علاقاتٍ إيجابيةً مباشرة ببعضها، تتصارعان في حدائق مجاورة على حساب شعوب أخرى.
وقتما مات آلافُ البشر وسط ظروفٍ جيوسياسية صعبة، ظهر المليشياوي أبو فدك في حلب علانية، مستغلا الهلع والحاجة
حتى الزلزال، وهو نتاجُ قوانين الطبيعة، صار مساحةَ مضارباتٍ في سوق المصالح السياسية ولعبةِ المحاور المتصارعة على آلام الناس. وقتما مات آلافُ البشر وسط ظروفٍ جيوسياسية صعبة، ظهر المليشياوي أبو فدك في حلب علانية، مستغلا الهلع والحاجة والعجز لاستعراض ولاء محورِه ضد المحاور الأخرى، ومواصلا دورَ المليشيات الخاضعة لإيران وغيرها في الحرب السورية. وضع لا يستدعي فحصا عميقا لإدراكه، غير أنه يستلزم موقفا أخلاقيا للإشارة إليه بعيدا عن أي اعتبارات.
كما تسهل معرفةُ أن منظومةَ الحكم العراقية لن يتجرأ أيٌّ أطرافها على انتقاد هذا الشخص بأنه مخطئ، فضلا عن القول له إنه مجرم أو متهم بالجريمة، واستنكارِ ذهابِه "الرسمي" إلى بلد آخر بلا صفةٍ دبلوماسية أو إنسانية. هو ذو صفة في تجمع الحشد العسكري/ المليشياوي، ولطالما استفادت الجماعاتُ المسلحة المنضوية في هذا التجمّع من طابعه الرسمي، لتكريس سلطانها غير الرسمي. وضْع الحشد يمثل إحدى أهم أزمات البلاد بعد مرحلة "داعش"، واستمرارُه يمنع العراقَ من بناء دولته. مهما فرِح الناسُ باستقرار نسبي وفعالياتٍ اقتصاديةٍ ومجتمعيةٍ وثقافيةٍ ورياضية وسياسية تعبّد طرقا مبشِّرة، لن تذهب الطرقُ بهم بعيدا ما دامت هناك قوةٌ عسكرية عملاقة تتصف بسمة رسمية وغير رسمية في آن واحد.
يُقدّم الحشد الشعبي نفسَه على أنه نتاجُ فتوى المرجع السيستاني بقتال "داعش" عام 2014. بغض النظر عن التقييم الأخلاقي والثقافي والسياسي للفتوى، يصرّ صاحبُها على أن يسميَ مَن استجابوا المتطوعين وليس الحشد. هو ضمنا رفَض التسميةَ الموجودة.
تلك السلطات الرسمية/ غير الرسمية يتحكّم ببعضها أشخاصٌ مدرجون في قوائمِ وزارةِ الخزانة الأميركية للعقوبات
وفق متابعة للأحداث اليومية بعد سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة الإسلامية، الحشدُ هو تجمع مليشيات مسلحة دعا إليه رئيسُ الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي قبل إعلان الفتوى بيوم واستفاد منها لتأسيسه. رحل المالكي مخلفا وراءَه نيرانا وانسدادات. بقي "الحشد" متحوّلاً تدريجيا إلى سلطةٍ معترف بها لا تخضع بالكامل إلى المؤسّسات التقليدية. لأيّ رئيس وزراء صلاحيةٌ رسمية في التحكم بالحشد لا يمتلكها عمليا. أبو فدك هذا، مثلاً، وُضع في منصبه باتفاق قادة جماعاتٍ مسلّحة. وكما في عهد مصطفى الكاظمي، الذي حاولت كتائبُ حزب الله اغتيالَه وهدّدته مرارا، لا يظهر أن باستطاعة محمد شياع السوداني فِعلَ كثير، إلا إذا امتلك شجاعةَ رجل دولة لم يمتلكها أسلافُه. أظنّه لا يتجرأ أن يسأل المليشياوي لماذا ذهب إلى سورية في مثل هذه الظروف والتقى دكتاتورَها. ولا أن يطلب منه تفسيرا بشأن علاقته بإسماعيل قاآني، خليفة سليماني. خصوصا أننا نتحدّث عن رئيس وزراء محكوم بسلطة برلمانية تابعة لميليشيا العصائب وسلطة أخرى داعمة للحشد هي المالكي. هاتان السلطتان بدورهما لا تقدران، إن فرضنا أنهما أرادتا، أن تطلبا من أبو فدك وأمثالِه الاستجابة لفكرة أن لا بد للعراق من دولة حقيقية وليس منظومةَ حكمٍ خاضعة لجماعات مرتبطة بمحاور خارجية.
المفارقة أن تلك السلطات الرسمية/ غير الرسمية يتحكّم ببعضها أشخاصٌ مدرجون في قوائمِ وزارةِ الخزانة الأميركية للعقوبات، فهم ليسوا عقبةً أمام تكوين دولة عراقية فحسب، بل مشكلةٌ اقتصادية كذلك. بيد أنهم غيرُ معنيين بهذه المشكلة، كونهم ضمن محور عابر للحدود موظفِي صفاتِهم الرسمية لصلاحيات غير رسمية. وذهاب مسؤول عسكري في "الحشد" إلى حلب مستعرِضا أمام ضحايا الزلزال هو استفادة مما هو رسمي لدعم ما هو غير رسمي. استغلال ما هو عراقي خدمةً لما هو غير عراقي. هي العقائد المسلحة عابرة الحدود والمُدارةُ من عاصمة هنا وأخرى هناك تتلاعب في حدائق إقليمية للنفوذ وتصفية الحسابات.