الحرب وحياد الجيش في السودان
على وقع أزيز الطائرات وزخّات الرصاص، أقدمت البعثات الدبلوماسية لدول عديدة تمتلك الموارد على عمليات واسعة لإجلاء رعاياها من السودان. وحطّت طائرات وأبحرت سفن من ميناء بورتسودان محمّلة بمئات منهم. وترك هذا أسئلة تدور في أذهان السودانيين قبل غيرهم بشأن أمريْن، مبرّرات الاهتمام الدولي الإعلامي غير المسبوق والذي تفجر فوق سماء السودان، والبحث عن مدلولات هذا الإجلاء الجماعي.
تحاول هذه السطور التوقف عند مدلولات هذا المستجد ومآلات الصراع المسلح في السودان. وتُلحظ هنا عمليات إجلاء الرعايا، خصوصاً التي نظمّتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فهذه الدول قطعاً، وبما لديها من معلومات، قد تحسّبت لتطوّرات مقبلة، ربما يكون من أول ضحاياها رعايا هذه الدول. ولفهم ما قد يحدث، يلزم إدراك أن الحرب الدائرة، في حقيقتها، هي بين قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) وقوات لا تمثل الجيش السوداني، بحسب ضباط سابقين فيه، ومصادرهم من ضباط عاملين حالياً في الجيش. يقول هؤلاء جميعاً إنّ قوات مؤدلجة في الجيش، تابعة للحركة الإسلامية، اتّخذت قراراً بالحرب على معسكرات "الدعم السريع" ما يعني أنهم اختطفوا القرار من قيادة الجيش، وزجّوه في واقع لم يكن له فيه يد.
كيف اختطف الإسلاميون قرار الحرب؟ تؤكّد شواهد أنه لم تكن للجيش علاقة بهذا القرار، وإلّا لما كانت قيادة الاستخبارات وكبار الضباط أول من يسقط تحت قبضة قوات الدعم السريع. هذا يؤكد أن استخبارات الجيش كانت مغيّبة تماماً عن تحرّكات الإسلاميين داخل الجيش. الأمر الثاني سقوط قيادة الجيش ووزارتي الدفاع والداخلية سريعاً بيد "الدعم السريع"، ما يؤكد أنّ لا أحد كان يتحسّب، حتى لتحرّك من قوات الدعم السريع. وفي الحالتين، هذه هزيمة أولى لا يمكن هضمها من الجيش، من دون أن تثير غضباً كبيراً فيه، حتى لدى من لا يزالون في حسبة التبعية للإسلاميين.
كل القرائن تشير إلى أن القوة الضاربة للجيش، سلاح المدرّعات أو المدفعية والمشاة مثلا، لم تدخل بعد إلى ساحة القتال
دليل آخر أن الفكرة من استهداف مقرّات "الدعم السريع" في المدينة الرياضية في الخرطوم عمل له طابع مدني، تغيّب طبيعة القرار المتخّذ وتحديد الأهداف منه وأولوياتها كما هو متعارف عليه في العلوم العسكرية. وإنما كانت الحسابات سياسية ممعنة في السذاجة. بمعنى أن يبادروا بضرب قوات الدعم السريع في أكبر معاقلها، ومن ثم تحريك قواهم المناصرة من داخل الجيش، وامتلاء الشوارع بهتافات أنصارهم المدنيين للإسلاميين، ومن ثم ضرب عصفورين بحجر، عودة إسلامية بمؤازرة الشارع إلى الحكم، وقطع الطريق أمام استكمال عملية الاتفاق الإطاري وترتيبات الحكم المدني. وكان من المتعذّر على قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أن ينجز عملية انقلاب ثانية بعد التي قام بها بأمر من الحركة الإسلامية، وقطعت بالفعل الطريق أمام حكومة ومجلس سيادة بغالبية مدنية، كما هو الاتفاق بعد إطاحة حكم عمر البشير.
أكثر من ذلك أن البرهان نفسه، بدلالة كل القرائن، لم يقم بأي عملٍ يدلّ فيه على أنه لا يزال قائدا للجيش، أو حتى رئيسا للبلاد، إذ لم يسع إلى مخاطبة الشعب، أو لم يظهر أصلا عبر أية وسيلة، ليقول له حقيقة ما يجري، ما يدلّ على أنه لم يعد صانع قرار أو قائدا للجيش. وما تردّده أحاديث ضباط الجيش أن ما صدر عن البرهان من تصريحات مهادنة لقوات الدعم السريع، وقد قال مما قال إن الحرب عبثية ولا منتصر فيها، ما يعزّز الاعتقاد بأنه غير ضالع في ما يجري بأي صورة. ولا يمكن لقائد جيش يقود عملياتٍ ضد من يعتبره متمرّدا أن يصف ما يقوم به "عملا عبثيا". زد على ذلك أنه ظهر مستاءً مقهورا، ويتحدّث "أداء واجب" غير مقتنع حتى بما يقوم به.
يقول ضباط سودانيون سابقون لهم مصادرهم إن قوات مؤدلجة في الجيش، تابعة للحركة الإسلامية، اتّخذت قراراً بالحرب على معسكرات "الدعم السريع"
أما عن طبيعة العلاقة على أرض الواقع بين "الدعم السريع" والطرف الآخر الذي يقاتله، ولا يستطيع كاتب هذه المقالة الزعم أن هذا الطرف هو الجيش، فكل القرائن تشير إلى أن القوة الضاربة للجيش، سلاح المدرّعات أو المدفعية والمشاة مثلا، لم تدخل بعد إلى ساحة القتال. والحالة الوحيدة التي يمكن للجيش معها الدخول على خطّ الحرب الدائرة استفزازه بقوة من "الدعم السريع"، وقد حدث ذلك في سلاح المهندسين في أم درمان، فخرج الجيش وضرب "الدعم السريع" بشدة وكبّدها خسائر فادحة، ثم عاد إلى مقرّاته. ولم يدخل سلاح المدرّعات. ويشير ذلك كله إلى غضب من قادة الجيش من الحركة الإسلامية التي جرّتهم إلى حرب، من دون أن تكلف نفسها استمزاج رأيهم، ما يتنافى والعمل العسكري القائم على الانضباط والهرمية في اتخاذ القرار. عدا عن القول إنهم هُزموا باستغلال أسمائهم، إذ لا يُعقل أن تسقط قيادتهم ويجري أسر قادتهم بهذه الطريقة المهينة. ويظهر ذلك في تنبه قائد "الدعم السريع" حميدتي، وتركيزه، في كل أحاديثه، على أن من يحاربهم ليس الجيش وإنما كتائب الظل والمجاهدين الذين قتلوا الثوّار في التظاهرات. يكرّر في كل مرّة العبارات نفسها التي يطلق من خلالها رسائل إلى قادة الجيش "لست عدوا لكم ولا أخوض معركة معكم وأنا منكم". بل لقد أظهرت قوات الدعم السريع تفوّقاً واضحاً على القوة التي تحاربها، وفاقتها من حيث التكتيك وسرعة الحركة، وتركت لهم معسكراتها للدعاية التي سرعان ما تنقلب على مطلقها لأنها خاوية. وأكثر من ذلك، هو يكسب كلما يضرب الطيران المدنيين، وهذا ما يزيد من غضبة الجيش الصامت على الفكرة الساذجة باستخدام سلاح الطيران، بكل ما يخلفه من ضحايا بين المدنيين، مع غياب إسناد أرضي من المشاة، ما يجعله يرقى إلى مثابة جرائم ضد المدنيين.
أعتقد أن ما سيحدث هو انتظار الجيش لحظة يبرُز فيها انتصار "الدعم السريع" الحاسم على الجهاديين، ثم يدخل على الخط، لفرض واقع جديد وترتيبات لمرحلة جديدة، بمساعدة الأمم المتحدة والدول النافذة، مثل الولايات المتحدة، ما يحقّق اختراقاً يوقف الحرب، لكنه لن يوقف مليشيات الحركة الإسلامية، وهذا ما يحيلنا إلى بداية المقالة أعلاه، المشار فيها إلى مسبّبات خوف أميركا وغيرها وإجلاء رعاياهم.