الحرب حاجةً إسرائيليةً
تنفع الإجاباتُ المتداولة على السؤال عن الأسباب التي دفعت الحاكمين في إسرائيل إلى شنّ الحرب العدوانية على قطاع غزة، في التحليلات الإعلامية، وعلى شاشات الفضائيات، من قبيل حاجة يئير لبيد إلى إظهار شخصه قويّ الشكيمة، تُقيم فيه، هو الآخر، شهية القتل، في لحظة تنازع انتخابي على مقربة نحو ثلاثة أشهر من برلمانٍ جديد. وكذلك استشعار المستوى العسكري ضرورة تظهير العين الحمراء، بقوة نيرانٍ مشهودة، وبجرائم معلنة، أمام حركة الجهاد الإسلامي التي تهدّد وتتوعد، بعد خطف أحد شيوخها في الضفة الغربية. وفي الوُسع أن تنضاف أسبابٌ أخرى للذي تقارِفه دولة الاحتلال في القطاع المحاصَر، من اعتداءاتٍ وغارات. تصحّ هذه الأسباب كثيرا أو قليلا، تبدو مقنعةً إلى هذا الحد أو ذاك، ولكنّ بعدا جوهريا، عميقا وأساسيا، يحسُن ألا يغيب في غضون هذا الكلام وتداوله، وموجزُه أن إسرائيل، دولةً ونظاما وبنيةً عسكريةً وسياسيةً ليس في مكنتها أن تستغني عن الحرب، صُغرى أو كبرى أو بيْن بيْن. لا تقدر على مغادرة الحرب. تقيم فيها ضرورةٌ دائمةٌ لأن تحارِب، وأنْ تحارِب يعني أن تقتُل، أن تدمّر، أن تقصف، أن تضرب مستشفياتٍ وطرقا ومدارس، وإذا انقتل أطفالٌ أو شيوخٌ أو نساء فهذا ليس مؤرّقا لها، في وسع نخبٍ إسرائيلية، على شيءٍ من الليبرالية والنزوع الثقافوي، أن يتحفّظوا على هذا، بل وأن يندّدوا به، ويعدّوه خروجا عن "أخلاقياتٍ" يجب أن تتحلّى بها دولة إسرائيل. لهم أن يزيدوا ويعيدوا في هذا القول، لكن حسابات الدولة وطبائعها تستقرُّ في مواضع أخرى، فضلا عن أنه ليس من أعرافها، ولا من تقاليدها التي تأسّست عليها، أن تكترث بأخلاقٍ هنا وأخلاقٍ هناك، عند ضربها مدرسةً في مخيم الشجاعية في قطاع غزة أو في بحر البقر في مصر أو ناسا آمنين في قانا في جنوب لبنان أو مصوّرا صحافيا إيطاليا اسمُه رفاييل تشيلّو في رام الله أو مراسلة تلفزيونية فلسطينية اسمُها شيرين أبو عاقلة في جنين. والأكيد أنه ليس في الوُسع الاسترسال هنا في مثل هذه الوقائع من أرشيفٍ مثقلٍ بمذابح وجولات تمويتٍ ما كان لدولة الطرد والتهجير والقتل أن تقوم لولاها.
صارت الحروب أكثر يُسرا لإسرائيل. اعتداءات ونوبات قصف وغارات أياما أو أسابيع أو أكثر، بحسب الخطط الموضوعة التي لا يخرمها طوفان الإدانات العربية والإسلامية (لم تعد الخارجية الإماراتية تُزاول هذه العادة)، وإنْ تتخللّها هدن، وإنْ تتوقف بعد عنتٍ سياسيٍّ ودبلوماسي، وبعد ضرباتٍ تؤدّيها المقاومة ببسالة. قال أنور السادات إن حرب أكتوبر 1973 آخر الحروب العربية الإسرائيلية، فصار هذا محقّقا، إذ لا يعدّ اجتياح بيروت وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان في صيف 1982 حربا عربية إسرائيلية، ولا سائر الاعتداءات على لبنان، والتي أخذت منطق الروتين الإسرائيلي، وإنْ يحقّ القول إن المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله أنجزت مهمّا نوعيا في كسر هذا الروتين، وإنْ ظلت الأكلاف التي تحمّلها اللبنانيون في بلدهم بلا حصر.
يصحّ القول هنا إنها بلا حدود ثقةُ المستويين، السياسي والعسكري (والاستخباري من قبل ومن بعد) في دولة الاحتلال، بأن في وسع "التساحال" (بتحريفٍ ييسّر نطق الاسم)، أي الجيش الإسرائيلي، أن يؤدّي مهمّاته، القتل والاغتيال والتدمير والقصف على المدنيين أو غير المدنيين، من دون أن يستشعر أيٌّ حاكم عربي أي حرج، من دون أن يتأثر مُقام السفراء الإسرائيليين في عمّان والقاهرة وأبوظبي والمنامة والرباط والخرطوم بشيء. بل ثمّة تعايشٌ عربيٌّ مع المذبحة الإسرائيلية، في قطاع غزّة المحاصر، صار مديدا وتقليديا. تختبر إسرائيل قدراتها وإمكانات ضبّاطها وجنودها وطيّارييها الحربيين في غزّة سنويا، كأنها تزاول تمريناتٍ دوريةً لسلاحها الجوي، بتغطيةٍ أميركيةٍ معلنة، تعُدّ هذا حقا في الدفاع عن النفس. وللضحايا أن تلتقط لهم الصور نائمين في موتهم المستجد. وهكذا دواليك. وفي الأثناء، ثمّة غبطةٌ لدى فلسطينيين وعرب، في خارج مدار غزّة وحزامها، بالبطولة والصمود هناك، وبارتقاء الشهداء إلى العلا .. وقد تعب أهل غزّة من البطولات، ويريدون أن يرتاحوا، وأن تطول الفسحاتُ بين موتهم هذي اللحظة وموتهم في اللحظة التالية أكثر وأكثر.
إسرائيل وفيّة في تأدية حاجتها للقتل ضرورة بقاءٍ واستمرارٍ وديمومة، وهي التي قامت دولةً على القتل. والعرب، وفي مقدّمتهم الفلسطينيون الرسميون (ما أخبارهم بالمناسبة؟)، لم يعودوا يأنفون من التعايش مع المذبحة.. على مبعدةٍ منها طبعا.