الحائري والصدر .. وعراق البيضة والحجر
قبل مقتله عام 1999 بفترة قصيرة، أوصى المرجعُ الشيعي محمد الصدر، والد مقتدى، برجوع أتباعِه إلى المرجع الآخر كاظمِ الحائري. ولمواجهة مشكلة وجوده خارج العراق، وتحديدا في قم الإيرانية، دعا إلى أن يكون القائدُ في المجال غير الفقهي شخصا يعمل بصيغة وكيل الحائري داخل البلاد.
استند الصدر إلى أن الآخر كان زميلَه في الاتجاه الدراسي. وبمعزل عن أنها كانت سابقةً أن يحدّد المرجعُ الشيعي خليفتَه، بدا الأمر لمن عرف الحائري واحترم الصدر صادما، فمسار حياة المرجع المولود عام 1939 كانت معلّمة بأحداث تشير إلى ممرّات شائكة بالتخبط والفتاوى العنيفة والولاء المطلق لخامنئي، فالحائري يؤمن حازما بولاية الفقيه الإيرانية. ومن جانب آخر، طالما أصاب أوساطَ معارضة النظام السابق غيرِ المؤدلجة بالذهول والغضب بسبب فتاواه العنيفة التي بلغت أحيانا صفة الإرهاب في كتابه "دليل المجاهد"، خصوصا تبرير قتل الشرطي وموظف السلطة في حال لزم الأمر لمواجهة الرئيس العراقي الأسبق، صدّام حسين. عدا عن هذا، ظل الفقيهَ البارزَ الوحيد في الحياة السياسية العراقية الذي أعلن بدون أدنى تردّد رفض أيّ نبرة علمانية، بل تعكّز دائما على التحذير من العلمانيين لتبرير سياق الحكم القائم على النهب والشللية.
لذا بقي ما أوصى به والدُ مقتدى بمثابة قنبلة أوشكت على الانفجار أكثرَ من مرّة، حتى انفجرت. زال مانعُ رجوع الحائري إلى العراق مع سقوط نظامه السابق، ولم يرجع. وبقيت صيغة الصدر هي السائدة: فقيهٌ خارج البلاد يقلّده الناسُ وفق السياقات الشيعية، وممثلٌ عنه داخل العراق يقود المسار السياسي. هذا الوكيل الإسمي أصبح مقتدى الصدر. كان إسميا، لأنه لم يعوّل كثيرا على أنه ممثلٌ، بل نظر إلى نفسه زعيما بموجب عوامل، مثل أنه وريث نسَبيٌ للزعامة، وأنه قائد كتلة بشرية بلا نظير. غير أن الصيغة الشكلية دامت مهمةً، لأن الابن عبّد مسيرَه بأنه تمثيلٌ "شرعي" لكل ما رآه أبوه وما فعله وما أوصى به وما أنتجه.
لم يُثر الحائري الاهتمامَ ولم يلفت الانتباه إلا حين كان عُتاةُ التطرّفِ بحاجة لما يبرّر عنفَهم
حدث الانفجار حدث صبيحةَ 29 أغسطس/ آب، عندما أصدر الحائري بيانَ اعتزالٍ غير مسبوق في أوساط المشتغلين في الدين على الطريقة الشيعية، متذرّعا بكبر سنه وسوء صحته. ليعتزل، لا مشكلة في المسألة، فالرجل لم يُثر الاهتمامَ ولم يلفت الانتباه إلا حين كان عُتاةُ التطرّفِ بحاجة لما يبرّر عنفَهم. الحكاية كمنت في مضمون البيان، فهو أكّد ولاءَه المستمرَ لخامنئي، بل دعوتَه "المؤمنين" إلى طاعته. أوصى بالحشد الشعبي ودعمِه وحمايتِه. أما حافزُ الغضب ومؤجِّجُ الموقفِ فهجومُه على مقتدى الصدر بدون أن يسمّيه، نافيا عنه صفة مواصلة مسير أبيه وناعتا إياه بفاقد مؤهلات القيادة.
غضِب مقتدى الصدر. اعتزل هو الآخر الحياة السياسية في بيان، معتذرا لفعل الحائري بأنه كان مكرها، ومبرّرا لنفسه أنه أراد الإصلاح. ثم عاد إلى نقطة البداية، حين قال إن قوته ليست نتاجَ المرجع الموجود في قم، بل نتاجُ ما سماها "فيوضات السيد الوالد الذي لم يتخلّ عن العراق". اعتزل هذه المرّة لأن الشرعيةَ الاسمية رُفعت، لكنه ليس الاعتزالَ الأخير، سيعود الصدرُ قريبا. وأكثر، أعطى بيانُه أتباعَه ضوءًا أخضر كي يهاجموا بدون إعطائهم غطاء اسمه. وهكذا، حين رأى الدماء سفكت بعد ذلك، ألقى بقسط من اللائمة على جمهورِه، لأنه تحرّك مسلحا. هو أسلوب اعتمده سابقا حين أريقت بسببه دماءُ شريحة من العراقيين في معاركه على طريق زعامته الموروثة نسبا من أبيه.
لا يمكن فك الارتباط بين الصدر المهمومِ بوراثة أبيه والفكرةِ العقائدية المستجدة (ولاية الفقيه)
شخصٌ مزاجي منفعل استكن اسما على شرعية مرجع ديني، الحائري، مزاجي غضوب، رُفعت الشرعية الفقهية عنه، فهرب من ذلك زاجّا أتباعَّه مجدّدا في معركة دم سمّاها الإصلاح، وهي ليست أكثرَ من صراع بينه وزعيم حزب الدعوة نوري المالكي. في السابق، دفَع ممثليه في البرلمان كي يصوّتوا للمالكي عام 2006 رئيسا للوزراء، لمنع ندِّه في صراع العائلات النجفية، زعيم المجلس الأعلى للدعوة عبدِ العزيز الحكيم، من فرض اسم آخر للمنصب. كان على الجميع الخضوعُ لاختياراته وعلى جمهوره الطاعةُ، لأن ما اجتباه هو الصحيح. وحين اختلف مع المالكي، وجّه البوصلةَ في اتجاه آخر، وعلى الكل السير في اتجاه البوصلة المترجرجة.
يمكن استخدامُ مصطلح الإسلاميين الحاكمين في العراق "الطاغية" المقتبس من القرآن صفة لفرعون. طالما وصفوا به صدّام حسين. كانوا على حق، فالرجل لم يتصرّف طيلة حكمه إلا حاكما مستبدّا أمعن في الإجرام والاستهتار بحق بلده وشعبه وجيرانه. هم يتصارعون طغاةً كذلك، فلا يمكن النظر إلى المعركة بين المالكي والصدر إلا مواجهةً بين طاغيتين، لم يتسع العراق لهما معا. لم يرغب المالكي بمنافس، أطاح كل خصومه تدريجيا، حتى مرجعيةُ النجف التي تتعكز عليها منظومةُ الشيعية السياسية العراقية، خاض صراعا معها لأنها منافس. الصدر هو الآخر يريد انتخابات بدون الأحزاب القديمة، معطيا لنفسه حق الوصاية مثلا على حزب مسعود البرزاني القديم، والذي يعدّه جزءٌ كبير من الأكراد هويةً سياسية لهم.
والد مقتدى، طرح ولايةَ الفقيه ضرورة، وتصرف بموجبها. كلُ ما هنالك حصَرَها الصدرُ في حدود قُطرية، فلإيران وليُّ فقيه خاص وللعراق آخر
لا صلة للمسار هنا بما تتمناه نخب عربية تنظرُ إلى الصدر من زاوية خصومته نظام إيران، كما نظرت إلى صدّام حسين سابقا، أو كما تنظر نخب النظام الإيراني إلى نوري المالكي باعتباره حاجزا أمام الدورين، السعودي والتركي. المسألة أعمق من ذلك بالنسبة إلى أصحاب المشكلة أنفسهم، العراقيين. الوضع العراقي يعاني من عنفٍ مستمرٍّ ونهب ممنهج واستهتارٍ لا حدود لها. هناك رغبة مستمرّة بأن ينفرد أحد، مقابل حالة شتات مدمرة. وفي الوضعين خراب. في الحالتين تتربص دوافعُ الرغبة الذاتية المدمّرة لظروف بلد يمتلك عوامل جيّدة كي ينهض.
بالطبع، المعركة الشخصية بين شيعيين يمتلكان سلطة أساءا توظيفهَا، ليست الوحيدةَ مثالا لمشهد حرب الشخوص المتزعِّمة. هناك القطبُ الكردي مسعود البرزاني إلى جانب أسرته، والزعيم السني الصاعدُ محمد الحلبوسي والمعتاشون عليه. أسهم هذان في تغيير الصراع من موضوعي يبحث عن صيغة تمنع انفراد الشيعية السياسية إلى صيغة احتكار إرادتهما الكردية والسنّية السياسيتين. هما وآخرون أمثالهما زعاماتٌ لا تختلف عن الصدر والمالكي، لكنها لا تمتلك الأكثرية كي تذهب إلى أبعد. الأخير، بعد ختْمِ ولايته الثانية المليئةِ بكوارث الدم والمال، وآخرها بيع سيدات من وطنه في سوق نخاسة تنظيم الدولة الإسلامية كونهن غيرَ مسلمات، هو الآخر تقزّم كثيرا في السنوات الأخيرة، لأنه خسر جلّ رصيد أيام استهتاره. أما الصدر فيربح، ومستمرٌّ في التقدم على منافسيه. ربما هو ربح مخادِع سيُغرقه كما أغرق آخرين قبله.
معركةُ الصدر في مواجهة رئيس الوزراء الأسبق تتفرّع، لأن الأخير تحوّل إلى مؤسّس مليشيات اعتمادا على انشقاقات من داخل جيش المهدي المنحلّ، فعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي الذي كان واقفا على يمين الصدر، حين أعلن تأسيس جيش المهدي في 2004، تظل أهم نماذج محاولات المالكي أن يربك غريمه عبر إيجاد أعداء له من بين أتباعه. وتجدُر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن المقارنةَ بين ظاهرة مقتدى الصدر من جهة، ومليشيات مثل العصائب وكتائب حزب الله وسرايا الخراساني وأمثالها من جهة ثانية، ظالمة. لأن الأولى تيار شعبي مكوّن من مئات آلاف الناس أو ملايين، رغم أنه لم يتخلص من عقلية المليشيا المصاحبة له، بينما كانت الأخرى عصابات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني ولا تزال.
المقارنة بين ظاهرة مقتدى الصدر من جهة، ومليشيات مثل العصائب وكتائب حزب الله وسرايا الخراساني وأمثالها من جهة ثانية، ظالمة
هنا، يظنّ كثيرون أن الصدر، أسرة واتجاها فقهيا، لا يؤمن بولاية الفقيه. هذا سوء فهم نابع من الخلط بين الموقف الرافض لعلي خامنئي ونظام ولاية الفقيه الإيراني من جهة والموقفِ من جذر هذا المبدأ المستحدث في الفقه الشيعي من جهة ثانية. المرجع الصدر، والد مقتدى، طرح ولايةَ الفقيه ضرورة، وتصرف بموجبها. كلُ ما هنالك حصَرَها الصدرُ في حدود قُطرية، فلإيران وليُّ فقيه خاص وللعراق آخر. لهذا، لا يمكن فك الارتباط بين الصدر المهمومِ بوراثة أبيه والفكرةِ العقائدية المستجدة (ولاية الفقيه). الرجل، في نهاية المطاف، يقتفي أثر خطوات الخميني، وإن كان فرقُ الكفاءة كبيرا بين الاثنين وبين العراق وإيران. لكنه عنيدٌ يتصرّف بموجب أن كل خطوة تخفي الخطوة التي تليها، كي يصل إلى آخر ما يريد، وهو جمهورية إسلامية يسيطر عليها رجلٌ مشتغل بالدين.
لنترك معرفتنا غيرَ المفهومة للآخرين بشأن مقتدى، ونكتفي بالمعطيات. ولنسأل: رجل مهموم بأتْباع يشتمهم، يتهجم عليهم، يزج بهم في معاركه، لا يريد منهم جدلا أو "لا" رافضة، كيف سيتصرف مع غير أتباعه: هل سيسمح لهم أن يقولوا "لا"، بل أن يكونوا أتباعا لغيره أو لغير معتقده؟ ولنراجع صورَ الخارجين من مداخل المنطقة الخضراء وسط بغداد، بعد أسابيع من السيطرة عليها، بعد أن أمرهم زعيمُهم بذلك، حاملين السلاح في أثناء مرورهم بقوى الأمن العاجزة عن التصدّي لهم على الأقل باعتبارهم يحملون سلاحا مشهرا من دون ارعواء، هل تشير تلك الصور إلى جمهور موثوق به لزعيم شريك في الحكم 17 عاما ويدافع عن الإصلاح وبناء دولة حقيقية؟
نعم، بدا الرجل غاضبا في خطابه أخيرا لأن بعض أنصاره استخدموا السلاح، وهدّدهم بالتبرّؤ منهم. لكن يصعب تصديقُ أن جمهورا منضبطا جدا في اتباع خريطة التصويت الانتخابي ويخشى قائدَه خوفَ طاعةٍ لا نقاش فيه، تحرّك بلا ضوء أخضر. وإذا صدّقنا غضب الرجل وهو يقرّع أتباعَه، فربما يعبر عن خيبة أمله مِن أنهم لم يُخفوا السلاح وهم يمرّون أمام الكاميرات مستعرضين القوة والسطوة في بلادٍ باتت ملامحها لا تختلف كثيرا عن يوميات الفيلم المصري "البيضة والحجر".