التعفيش الحلال

04 يوليو 2019

(ريم يسوف)

+ الخط -
اسمي أحمد، ويناديني جاري يوهانس الحبشي محمود. عندي سبع كرات، ولا أحد يلعب معي. زلاجات سكاي ولا أعرف التزلج. أحذية سكاوتر وأخاف انتعالها. مضارب تنس، والتنس لعبة ثنائية أو رباعية. .. كان جاري يوهانس في الملجأ الألماني يقرع باب غرفتي الموحشة في كل مناسبةٍ ألمانية، ويخبرني بيوم الغزوة، ويطلب مني المساعدة على التعفيش الحلال، ولستُ بحلاّل التلاع مخافة، ولكن متى يسترفِد القومُ أرفد.
ألمانيا بلد صناعي، وفيها مصانع سيارات وسيمنز، وهي التي اخترعت المطبعة. الألمان يجدّدون أثاث بيوتهم كل سنتين، أحيانا كل سنة، ويتخلّصون من أثاثهم القديم أمام بيوتهم في أيام محدّدة من السنة، فـتأتي سيارة النفايات بفكّها المفترس من دبرها، ومعها عمال وافدون غالباً، ويقذفون كل تلك الخزائن الخشبيةً والمعدنيةً، والمتاع والثريات والتحف والعلب، في جوف الشاحنة الطاحنة قذفاً منكراً، فتمضغها بفكيها الحديديين، وتحوّلها حطاماً.
صرت أعفّش معه ما خفّ وزنه وحلا شكله. ألمانيا دولة غنية، هي مصنفة خامس أغنى دولة، لكن تصنيفات المصنفين مثل مؤشرات السعادة والتعاسة، تغفل أموراً وقرائن مهمة. وألمانيا، حسب رأيي، أغنى دولة. زعم برنامج تلفزيوني أنَّ فيها فقراء، زارهم التلفزيون في بيوتهم، فوجدهم يقتنون سيارات. السيارة هنا حاجة أساسية مثل الناقة عند العربي قديماً. في سورية السيارة حلمٌ فضائي، وكان لكل فقير ألماني أزواج من الأحذية؛ صيفية وربيعية، للجري والمشي والعمل، ودراجة واحدة على الأقل. فاض بيتي بموائد وكراسي وقطع زينة وكرات، ومضارب تنس، ومضارب بني هلال وعبس وذبيان.
يجمع بعض الوافدين، ومنهم طليان وأغارقة وصوماليون، تلك "النفايات" الأثرية، ويبيعونها في أسواق الأحد بأسعار زهيدة. زينات معدنية ونحاسية وحجرية، وآلات كهربائية، وسلالٌ، وأدوات لم أرها في حياتي، ولم أحتج إليها قط: مثاقب، وكلابات، وكابلات كهربائية يمكن مدُّها حتى أقصى المدينة. أتبرّع بها لأصدقائي، وأرجوهم: تعالوا عندي خزانة زائدة، تفضلوا عندي دراجة زائدة، تفضلوا عندي زائدة دودية في رأسي، وقلب نضج على الشوق، حتى احترق.
تشترط بعض الولايات موافقة صاحب البيت. نرنُّ، أنا وصديقي الإثيوبي، باب صاحب البيت، ونأخذ الإذن، فيسرُّ صاحب البيت، لأنه يفضل أن يرى مقتنياته سعيدةً في بيت آخر، بدلاً من شاحنة النفايات. لدى جاري الصومالي خمس وثلاثون دراجة، وجدها وأصلحها، وهو لا يركب سوى واحدة. أنا أحبُّ جمع الحقائب، أمسى عندي حقائب كثيرة استعداداً لرحيل جديد: حقيبة الحمام، حقيبة المطبخ، حقيبة النوم، حقيبة المعيشة. ديوجين كان ينام في برميل، أنا أعيش في حقيبة الشوق.
كان لدينا، قبل خمسين سنة، ساعة حائط ألمانية، لها منبّه قوي يشبه ناقوس نوتردام. وكان والدي الأعمى يستمتع بوجيب قلبها، وكانت سلوته الوحيدة، وأخطأت يوماً فقسوت عليها، وشدّدت عزقة الجرس، فتقطع النابض، ففقد والدي الزمان، عاتبني كثيراً، وكان يقول نادباً: غفر الله لك، حوّلت أيامي إلى وحشة دائمة. مات حزيناً على الساعة. تفقدتُ الساعة يوماً فلم أجدها، كانت مع بيتها الجداري الخشبي تصلح للزينة. في بيتي الألماني قطع كثيرة للزينة ملأت الرفوف، وعلب أغذية ومربيات تصلح للعرض، أفكر في تحنيطها وتأبيدها في ذاكرة الكلوروفورم، وصناديق خضروات جميلة، فاض بها البيت. لا أحد يزورني ليحسدني عليها، أو يتمتع بمنظرها. عاد يوهانس إلى الحبشة، وترك كل شيء لي.
أمسى عندي مستودع من الأثاث، لديَّ حقائب كثيرة، لكن ليس لدي جواز سفر، ولا وطن لأعود إليه. عندي سبع كرات قدم، وأربعون كرة تنس، وثلاثة مضارب، وأحذية لها عجلات، نسج عليها العنكبوت، ولا أحد يلعب معي.
بعد سنة زهدت في كل شيء، وصرت ألمانياً، أمرّ تحت أشجار الجوز وأترفع عنها، وأجد أشجار التفاح ناضجا على الأشجار ولا أمدّ يدي إليها، هي حصة الطير، وفواكه كثيرة أخرى لا مقطوعة ولا ممنوعة. استدان مني يوهانس عشرة يورو، وثمانين يورو، وخمسة يورو، ولم يردها. كنت أريد مقابلها أن يناديني محمود. انتقل يوهانس، وتعطلت ساعة قلبي، واحترقت نوتردام. اسمي أحمد ولا أحد ينادني به، ولا بمحمود.
دلالات
أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر