التطبيع سبيل عسكر السودان إلى الشرعية

09 فبراير 2023
+ الخط -

يكرّر عسكر السودان تجارب بعض الحكّام العرب، الباحثين عن حلول من الخارج، وفاقدي الشرعية الدستورية والشعبية، والذين لا يجدون سبيلاً إلى الشرعية والحلول سوى بتطبيع علاقاتهم مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، علَّها تكون سبيلاً إلى إنهاء عزلتهم وإعادتهم إلى المجتمع الدولي. واللافت في قضية تطبيع عسكر السودان أن هنالك دائماً طرفا في الحكم يخرج ليدّعي عدم علمه بلقاءات رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان المتكرّرة مع المسؤولين الإسرائيليين، ربما لكي يترك خيطاً رفيعاً يربطه مع الشعب. وكما حدثَ للدول العربية التي سبقت السودان إلى إقامة علاقاتٍ مع الإسرائيليين، تبرز قضية فك ارتباط هؤلاء بالقضية الفلسطينية، بسبب خللٍ بنيويٍّ لدى هذه الدول التي لا تعرف أولوياتها، وتعجز عن الموازنة في علاقاتها الدولية، فتزيد عليها في إهمال معاناة الشعب الفلسطيني لزيادة أسهمها لدى محتلّي أرضه.

ويأتي لقاء البرهان مع وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، في 2 فبراير/ شباط الجاري، والذي اتفقا خلاله على الشروع في تطبيع العلاقات، بعد ثلاث سنوات من لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في أوغندا، بداية فبراير/ شباط 2020، يوم اتّخذ قراره منفرداً للذهاب والاجتماع به، من دون أن يستشير أعضاء مجلس السيادة الحاكم، أو الحكومة الذين صرّحوا بأنهم علموا باللقاء من وسائل الإعلام. كما يأتي بعد أقل من ثلاث سنوات على إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن مكالمة هاتفية جمعته مع نتنياهو والبرهان ورئيس الحكومة السابق عبد الله حمدوك، في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، وأعلن ترامب بعدها أن الخرطوم وتل أبيب توصلتا إلى اتفاقٍ لتطبيع العلاقات بينهما. وأعلن يومها وزير الخارجية السوداني عمر قمر الدين أن حكومته وافقت على تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال.

ليس هنالك أكثر من الإسرائيليين مهارةً في مراقبة تغيُّر الأمزجة العربية والفرح لضرب مسلَّماتهم

وملاحظٌ في هذه اللقاءات وجود طرفٍ في الحكم السوداني يدّعي، لدى كل لقاء للبرهان مع الإسرائيليين، عدم علمه به. فعل ذلك رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك عندما التقى البرهان بنتنياهو، إذ قال حينها إنه علم به من الإعلام، ورفض الربط بين التطبيع ورفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، وأضاف أن أي اتفاقٍ من هذا النوع يحتاج لموافقة البرلمان، غير المشكّل يومها، والذي لم يشكّل بعد. أما البارز حالياً في هذا السياق فهو نفي نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، علمه بالزيارة ونفيه صحة الأنباء عن لقائه بالوفد الإسرائيلي. مع العلم أن حميدتي يعد الرجل الثاني في الأهمية بعد البرهان. ولا يصرّح حميدتي بذلك من باب التقية، فهو صرّح سنة 2020 بأن بلاده ماضية في إقامة علاقات مع دولة الاحتلال، وأوفد أخاه عبد الرحمن، الرجل الثاني في قوات الدعم السريع، لزيارة تل أبيب للقاء مسؤوليها، في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، كما أنه كان هو نفسه عازماً على زيارتها، في يوليو/ تموز الماضي، غير أنه امتنع بعد أنباءٍ عن أوامر صدرت عن المدّعية العامة للحكومة الإسرائيلية لاعتقاله في حال وصوله، بناء على طلب لاجئين سودانيين في دولة الاحتلال، بسبب الجرائم التي اقترفتها قواته في دارفور وغيرها. وفي هذا الإطار، ربما شعر بنية البرهان الاستفراد بالقرار، فنفى اللقاء طمعاً بتأييد الشعب الرافض للتطبيع، والذي أعلنت قواه الحقيقية أنه غير ملزمٍ لها.

قد يكون المُراد من وراء زيارة كوهين ولقائه البرهان زيادة أسهم الأخير لدى الإسرائيليين والإدارة الأميركية، للانفراد بالحكم عبر التخلص مما تبقى من مكوِّن مدني في السلطة، وهم من بقايا قوى الحرية والتغيير التي خرج منها أهم الفاعلين السياسيين، ولم تبقَ ضمن أطرها سوى بعض الشخصيات فاقدة التمثيل، لاستكمال خطوات انقلابه على هذا المكوّن، سنة 2021. كما أنه قد يكون قطعاً للطريق أمام حميدتي الذي تسعى مليشياته، قوات الدعم السريع، لتأسيس علاقةٍ استراتيجيةٍ مع دولة الاحتلال، خصوصاً بعد لقاءاتٍ عدة بينهما، كان لها طابع التنسيق الأمني والعسكري، وهو ما يشكّل خطورة على البرهان. وإذ يعاني قادة الانقلاب من العزلة الدولية، ربما يأتيهم الترياق من تل أبيب لإعادتهم إلى الأسرة الدولية، وهو ما يرفضه الاتحاد الأفريقي الذي لا يعترف بحكوماتٍ انقلابية، من أجل الحدّ من الانقلابات في القارّة. كما يطمحون عن طريق التطبيع إلى الحصول على المساعدات الاقتصادية من الخارج، وعلى الخبرات الإسرائيلية في المجال الاقتصادي وفي الزراعة، من أجل حل مشكلات البلاد الاقتصادية وأزماتها، وهو ما لم تستفد منه دولٌ عربيةٌ طبعت قبلهم. وهم بهذا لا يريدون الاعتراف بأن استفرادهم بالحكم، وتغييبهم القانون والدستور والحياة السياسية الصحيحة، وضربهم الحريات، وعدم اجتثاثهم جذور دولة البشير العميقة، هو سبب هذه الأزمات.

أي سودانٍ سيبقى ليوقّع السلام وفي سلطته عسكر يحرِّمون السلام على أهله، ولا يتحمّلون حكومةً فيها مدني، ولو من متاعهم؟

وإذ ليس هنالك أكثر من الإسرائيليين مهارةً في مراقبة تغيُّر الأمزجة العربية والفرح لضرب مسلَّماتهم، قال كوهين بعد مغادرته الخرطوم: "عدنا من الخرطوم بنعم ثلاث مرّات، نعم للسلام، نعم للاعتراف بإسرائيل، نعم للمفاوضات معها". وهذه إشارة منه إلى لاءات مؤتمر الخرطوم الثلاث، حين استضاف السودان مؤتمر القمة العربية سنة 1967، واتفقت الدول العربية فيه على أنه "لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات مع إسرائيل". ولم يهتم قادة السودان بذلك، وبأن كوهين ممثل أكثر حكومة إسرائيلية تطرّفاً، كما لم يهتموا بالجرائم التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في جنين قبل أيامٍ من هذه الزيارة، كما لم يدينوا تلك الجرائم، وربما اشترط عليهم كوهين عدم إبداء أي تعاطفٍ مع الشعب الفلسطيني، وربما فكّ الارتباط مع القضية الفلسطينية مقابل هذا التطبيع، كون التهافت السوداني على الإسرائيليين يبزّ التهافت الإسرائيلي على السودانيين لكي يكسب الحاكمون الشرعية على الصعيد الدولي، وهم الذين يعرفون أن لا شرعية دستورية لهم، ولا شرعية شعبية، وربما لا شرعية عسكرية، كونهم استغلوا الجيش لقمع الشعب ولممارسة المجازر بحقه، بدلاً من ممارسة وظيفته الوحيدة في حماية البلاد وشعبها.

قال كوهين بعد الزيارة إن تل أبيب قدّمت مسودة اتفاق سلام للقادة السودانيين، وسيجري التوقيع عليه بعد تشكيل حكومة مدنية هنالك. ولا يعرف كوهين أنه ليس لدى العسكر سوى مشروع واحد، منع المدنيين عن السلطة ومنع السلطة عن المدنيين. فأي سلامٍ سيحظى به كوهين، وأي سودانٍ سيبقى ليوقّع السلام وفي سلطته عسكر يحرِّمون السلام على أهله، ولا يتحمّلون حكومةً فيها مدني، حتى لو كان من متاعهم؟

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.