التركي المجهول صاحب المكتبة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
كتب الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" عبارة مفادها بأنك "لو استطعت أن يكون كلامك كله تواقيع فافعل". ويُقصد بالتواقيع الكلام الموجز المؤدّي إلى المعنى من دون إسهاب وحشو وزوائد. وقد ربطه الجاحظ بالمقدرة، بمعنى أنه ليس الكلّ قادرا على أن يكون حديثه تواقيع. وقد ينسحب هذا الاختصار والإيجاز أيضا حتى على أنواعٍ أدبيةٍ، من مميزاتها الإسهاب والإطالة كالرواية، كما حدث مثلا مع كافكا في روايته "المسخ"، وألبير كامو في "الغريب" والعمل الخالد لدوستويفسكي "المقامر"، ومعظم أعمال غسان كنفاني وروايات تشيخوف التي تميزت بالقصر.
رواية "العاجز" (دائرة الثقافة والسياحة، مشروع كلمة، أبوظبي، 2013) للتركي الكردي صلاح الدين بولوت، وهو كاتبٌ يدير مكتبة في إسطنبول كما يورد مترجم الرواية الشاعر السوري مروان علي، قصيرة تسرد جانبا من فترة تعذيب سياسي في تركيا، تعود إلى الثمانينيات. يستشعر القارئ بوضوح موهبة كاتبها بولوت الذي يقدّم فيها حالة إنسانية صعبة بأسلوبٍ خفيفٍ ساخر، لا يشعر فيه القارئ بأي ملل، ويتعرّف على معلومات جديدة عن الطباع الشرقية المشتركة في أمورٍ كثيرة، فالطباع الاجتماعية تتحرّك في مسارٍ متقاربٍ في مختلف المجتمعات الشرقية. نراها، بالقدر نفسه، في بلدان أخرى غير ناطقة بالعربية. وإذا كنّا مع الروائي التركي، أرهان باموق، نتعرّف، غالبا، على الجزء الغربي من تركيا، أو الجزء المتأثر بالحياة الأوروبية، فإننا مع صلاح الدين بولوت، في "العاجز"، نتعرّف على وجه شرقي مطابق لحياتنا العربية، خصوصا في ما يتعلق بالطباع والقفشات الضاحكة التي يقوم بها أبو الأسرة مع أبنائه وأحفاده، وقلق الأم المبالغ فيه تجاه عدم زواج ابنها الذي خرج من سجن سياسي.
ويتّضح أن الحوار في الرواية الأصلية يدور بين شخوصها باللغة الكردية، وهي أحد المكونات الثقافية في تركيا، إلا أنه حين نقل إلى العربية، وبسبب التقارب الثقافي بين المجتمعات الشرقية الزراعية بشكل عام، لا يلبث القارئ، مع تقدّم مسار الرواية، أن يشعر بحميميّة ما يقرأ، وكأنه يعرف عن قرب تفاصيل الرواية، أو كأن الحديث هنا عن إخوة له يتحدّثون بلسانٍ عربي مبين. وهذا الفرق بينها وبين قراءتنا رواية أوروبية صرف تدور في فضاء عالم عصري "نتعرّف" فيه ونحن نقرأ على طباع تفكير جديدة، بينما "نعيش" في مثل هذه الروايات أكثر مما "نتعرّف"، وذلك بسبب هذا التقارب السوسيولوجي الحاصل بين فضاء الرواية وفضائنا الشرقي العربي على أكثر من مستوى وتفصيل، مثل الاهتمامات المشتركة في التربية وأذواق الطعام وطريقة تبادل العواطف والاهتمام بالاستقرار الجماعي وخجل الفتيات ونزوع الفتيان نحو التمرّد، وغيرها من تفاصيل تحفل بها الرواية، ناهيك عن الأسماء ذات السمة الشرقية الواضحة.
تكشف براعة الكاتب أيضا موهبته في الوصف وتحريك الشخصيات تحريكا لا تشوبُه الصنعة، وكأنه بصدد مشاهدة فيلم سينمائي ترتسم فيه الحروف سريعا، لتشكّل صورا مستساغة لا يعترض طريق تشكّلها عارض ذهني أو فذلكة لغوية. تروي الرواية أو تسرد حياة شابٍّ يخرج من السجن ويعيش عذاباتٍ لا يستطيع الكشف عنها، تتعلق بفقدانه القدرة على الزواج، رغم أن فتاة في انتظاره، ابنة جارتهم، تُحاول التقرّب منه وتقدّم له مأكولاتٍ يرفض أن يقرّبها حتى لا يفتح المجال واسعا للعلاقة. وكانت أمّه تعاني من أجل تقريب العلاقة بينهما، ولكنه، في النهاية، يقرّر الذهاب إلى إسطنبول تحت دواعي التغيير بعد غياب دام عشر سنوات قضاها في السجن. وفي إسطنبول، يتصل بأحد "الرفاق" السابقين الذي يوفر له مناما في جوف معمل النجارة الذي يملكه. تتطوّر الأحداث انطلاقا من وصوله إلى إسطنبول، وهناك يُحاول أن يجرّب حياة أخرى. يحاول أن يجرّب مقدرته الجنسية في مبغى في إسطنبول، ولكنه نتيجة ما تعرّض له في السجن من ويلات يفشل، فيتأكّد حينها أنه مصابٌ بالعجز. لا يمكنه العودة إلى البيت، حيث تنتظره أمه بزوجة، فتتفرّغ حياته لتنتهي به إلى الضياع والتشرّد.
رواية إنسانية، ممتعة تذكّرنا بعيون الأدب.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية