07 نوفمبر 2024
التاريخ... وبولندا وإسرائيل
تتابعت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، الساخطة والمنفعلة، على القانون الذي سنّه في بولندا مجلس الشيوخ (البرلمان) وصادق عليه الرئيس، ويعاقب من يتحدّث عن مسؤوليةٍ على "الأمة البولندية" بشأن جرائم النازية ضد اليهود في غضون الحرب العالمية الثانية. وقد قوّلت أغلب هذه التصريحات القانون زعم إنكاره المحرقة (الهولوكست). فضلا عن أن جميع أولئك، وفي مقدمتهم نتنياهو، اعتبروا أنفسهم أصحاب القول الفصل بشأن التاريخ وحقائقه، في ما يتعلق بالجريمة النازية (وغيرها)، فكما أن الرواية الصهيونية بصدد فلسطين وطنا لليهود لا يجوز أن يخدشها أحد، فإن سرديةً واحدةً بشأن ما ارتكبه الرايخ الثالث في ذلك المقطع الصعب من تاريخ أوروبا الحديث لا يجوز لأحدٍ أن يرجّها، أو يختبر مناطق الصح والغلط فيها.
يقول من يقول إن القانون البولندي (ينتظر حسم المحكمة الدستورية العليا مواءمته مع الدستور) ما كان ليمرّ، لو أن الحكم في البلاد لا ينعقد الآن لحزبٍ يمينيٍّ محافظٍ، شعبويٍّ إلى حد غير قليل، هو "القانون والعدالة"، بعد انتخابات 2015، وهو حزبٌ قومي، يحاول التفلت من الاتحاد الأوروبي، ويعادي المهاجرين واللاجئين، ولا يستحسن حرية الصحافة. كما أنه ذو نزوعٍ يزهو بالأمة البولندية التي صار يُجرَّم من يربطها، شعبا ودولةً، بأي مسؤوليةٍ عن الجرائم النازية، أو المشاركة فيها، أو تسهيلها، على أرض بولندا، ويُعاقَب من يرتكب هذا الأمر بغرامةٍ ماليةٍ أو السجن ثلاث سنوات، ويُحظر استخدام تسمية "معسكرات الموت البولندية". لقائلٍ أن يقول إن هذا النزوع لدى الحزب الذي يقود حكومة وارسو وراء هذا القانون، غير أن الأمر لا يجوز أن "يُحشر" في هذه الزاوية وحدها، فليس افتراءً القول إن المحتل النازي في بولندا هو من أقام معسكرات الاعتقال التي تم تجميع اليهود فيها (هل من أحدٍ ضبط عددهم؟)، أوشفيتز وغيره. وإذا صحّ أن بولنديين شاركوا في العمل في هذه المعسكرات (غير البولندية حقا)، قسرا أو طوعا، فذلك لا يسوق إلى تجريم بولندا وشعبها وحكومتها، وكان النازي يحتلّها بالقوة.
لا يجوز، بحسب نتنياهو الذي اتهم بولندا بإنكار التاريخ، وبحسب وزير التعليم الإسرائيلي، نفتالي بينيت، الذي أفتى من عنديّاته بأن الشعب البولندي شارك، بشكل مثبت، في قتل اليهود في تلك الكارثة، لا يجوز، في عرف هذين وغيرهما، أن تخضع تلك الاعتبارات البديهية إلى أي إعمالٍ للعقل فيها، أخذا بأنها "عنزة ولو طارت". وهكذا، صارت أزمةٌ، كان من أعراضها رفض وارسو استقبال الوزير بينيت (اغتبط بذلك!)، وإلغاء زيارة نائب رئيس الحكومة البولندية تل أبيب، فضلا عن تصريحاتٍ متبادلةٍ، بدا أن استدراك تداعياتها سيتطلب جهدا ووقتا، سيما إذا ما أعلنت المحكمة الدستورية في بولندا صحّة القانون موضوع الأزمة. وهذا وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، أعلن خيبة أمل بلاده لتوقيع الرئيس البولندي على القانون الذي "له أثر ضارّ على حرية التعبير والبحث الأكاديمي". والظاهر أن مساعدي الوزير لم يُعرّفوه أن القانون يستثني من العقوبة أصحاب الأبحاث والدراسات، والإبداعات الفنية، إذا ما انشغلوا بموضوع المحرقة، بمعايير أكاديمية وتخييلية.
ليس الموضوع من مشاغل السياسيين. إنه يتعلق بالتاريخ، في مطرحٍ محدّدٍ في أوروبا، غير أنه أيضا متصلٌ بثقافةٍ مقيمةٍ (أو كانت مقيمةً؟) في مدارك الغربيين وأخيلتهم بشأن اليهود. وإذا كان هذا المستوى الثقافي عويصٌ، فإنه في مستواه التاريخي المحض لا يستأهل الاصطفاف هنا في مقابل هناك. ولكن هذا كلامٌ وعظيٌّ ومدرسيٌّ، فالنزاع على التاريخ، واحتكاره، وإنشاء منظومةٍ متنفذةٍ لمروياتٍ محدّدةٍ دون غيرها، هي في جوهر الشغل الصهيوني، في الماضي والراهن والمستقبل. ولذلك، على البولنديين أن يُعاقبوا أنفسهم على إثمٍ اقترفوه أو لم يقترفوه، وإلا فإنهم يُنكرون التاريخ وحقائقه. وفي المقابل، هذا كلامٌ، إذا تعلق بجريمة الهولوكوست، يدنّس شرف الأمة البولندية، ويشوّه سمعتها، كما قال الرئيس أندريه دودا. .. هل لدى الفلسطيني، والعربي، فائضٌ من الترف الذهني لينشغل في هذه المسألة؟ ربما لا. ولكن، عليه أن يصطفّ أساساً مع تجريم الكارثة التي أعملتها النازية باليهود، وينحاز إلى التاريخ عندما يكون عِلما... عِلما فحسب.