الإذلال وخدمة العلم السوري
اطلعت، قبل أيام، على مخطوط لكاتب سوري شاب (يصدر قريبا عن إحدى دور النشر السورية)، دوّن فيه يومياته في الخدمة العسكرية الإلزامية، إذ سُحب إلى الخدمة في بداية عام 2010 وأكمل سنواته الثلاث بينما سورية كانت في مخاضها العسير، وفي أكثر لحظات تاريخها استثنائية، حيث شكل عام 2011 وما تلاه تاريخا مفصليا في الزمن السوري، سوف يبقى أثره طويلا جدا على سورية وطنا وشعبا وتاريخا.
ينتمي الكاتب إلى القومية الكردية، إلى مدينة عامودا، التي كانت في 2011، مثل مدن سورية كثيرة، مركزا للمظاهرات المناهضة لنظام الأسد، حيث شكّل شباب الكرد جزءا رئيسا من الثورة السورية، إكمالا منهم لسرديةٍ تاريخيةٍ لطالما كانت معارضة لنظام الأسد الذي ألحق بهم الكثير من العسف والتنكيل والحرمان من الحقوق المدنية، ما جعلهم في 2011 يبادرون، من دون تردّد، إلى مشاركة باقي السوريين الثائرين في مظاهرات سلمية ونشاط مدني وسياسي لاعنفي، اختفى لاحقا مع التغيرات والافتراقات التي حصلت للثورة السورية، والمآلات الكارثية التي وصلت إليها.
يتحدّث الكاتب في يومياته عن الثورة في فصلٍ من فصول الكتاب، يسرد فيه عن التغيرات التي حصلت في العلاقة بين الشباب (زملاء الجيش)، وعن الاصطفافات المذهبية والمناطقية التي كما لو أنها كانت تحتاج إشارة واحدة فقط لتظهر، وعن الخوف الذي أصيب به "الضباط" المسؤولون عن الثكنة التي كان يخدم بها، وعن القرارات التي اتخذت فورا بمنع اختلاط العساكر أو الضباط من مذاهب مختلفة من الاختلاط ومن الالتقاء منفردين، في سردٍ مشحونٍ بلغة تختزن ألما كثيرا، وتعطي لمحة عما حدث أول الثورة السورية وكيف ولماذا.
الأهم في اليوميات ليس سرد تفاصيل ما بعد الثورة، على أهميتها طبعا، بل ما يسرده الكاتب عن طرُق الإذلال التي تمارس على الشباب السوري في أثناء "خدمة العلم"، فمنذ الصفحة الأولى تشعر أن ما يتحدّث عنه الكاتب هو معتقل سياسي وليس ثكنة عسكرية، والضباط هم سجّانون وجلادون، وليسوا ضباط جيش يُفترض أنهم يؤهلون شبابا أغرارا للدفاع عن الوطن وحمايته من الأعداء. كل ما يخطر في البال من أنواع الشتائم يسمعها شباب في مقتبل أعمارهم من مرؤوسيهم، كل أنواع الإهانات النفسية والبدنية، كل طرق الإذلال والقهر، كل آليات تحطيم الكرامة وعزّة النفس والكبرياء يستخدمها الضباط، أو صغارهم، ضد العناصر الشباب الذين لم يتجاوز أكبرهم الخامسة والعشرين من عمره.
تختزن ذاكرة الكاتب دموعه ودموع زملائه، والتي يُمنع عليهم إظهارها كي لا تتم معاقبتهم أو جعلهم مهزأة، تختزن لحظات تجويع حقيقية كي يضطرّ شباب في أول أعمارهم لشراء الطعام من "كافيتريا" يملكها أحد الضباط، تختزن لحظات حزنٍ نادرة على زملاء أنهوا حياتهم بأيديهم لأنهم لم يتمكّنوا من التعايش مع الذل الذي يتعرّضون له كل لحظة. ويحكي الكاتب عن لحظات قرف لا يجرؤون على الحديث عنها خشية العقاب، مثلا، عن الأسرّة التي عليهم أن يناموا عليها ولم يتم تنظيف أغطيتها منذ سنوات، ولا يسمح لهم بفعل ذلك أيضا. تحتزن ذاكرته تفاصيل كثيرة كفيلة بجعل أكثر الشباب توازنا أو جبروتا أو قدرة على الاحتمال مجرّد أشخاص يعانون من الاضطراب النفسي، نتيجة ما عانوه خلال "خدمة العلم" في سورية، اضطراب قد يتخذ شكل سلوك عنفي لاحقا، يمارس على الأطراف الأضعف/ إناث العائلة أو الأبناء أو الفقراء أو كل من هو في مرتبةٍ طبقيةٍ أو جندريةٍ أو جيليةٍ أدنى من مرتبة الشخص المضطرب. وهكذا تستمر الدائرة إلى ما لانهاية، وطن ينتقم من شبابٍ يفترض أنهم يؤهلون لحمايته في الخدمة الإلزامية، لكنهم يخرُجون منها معطوبين نفسيا بمفاهيم مشوّشة عن الوطن والمواطنة وشرف العسكري، وغيره من الشعارات التي أنتجت مجتمعا فاشلا، تحول شبابه إلى قتلة ومقتولين لدى أول فرصةٍ سانحةٍ لإظهار الغضب المتراكم منذ عقود، والذي يعاد تدويره مع الأجيال الجديدة.
لا يمكن لامرأة سوريةٍ أن تبقى محايدةً بعد قراءتها هذه اليوميات. ولا يمكن لها سوى أن تجد أعذارا للعنف الذي يظهر في سلوك الذكر السوري، أو للانكسار والضعف والاضطراب في علاقته مع الأنثى، فما يحدث في "خدمة العلم" السورية هو أشبه بالإبادة النفسية للشاب، وكسر لكل ما يجعل شخصيته تنمو بشكل معافى وصحّي... لكم أن تتخيّلوا بعد ذلك ماذا يحدث في المعتقلات والسجون.