الإخوان بين حرب غزّة والخلاف مع السلطة المصرية
مع اندلاع طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، انشغل خطاب جماعة الإخوان المسلمين بمسارات الحرب وأداء الحكومة المصرية، حيث نُظر إليهما عاملَيْن متلازمَيْن في الصمود أمام العدوان أو انهيار قطاع غزّة، وهنا، تبدو المسالة الأساسية في مدى تماسك مواقف مكوّنات تنتمي إلى الجماعة وقدرتها على الانخراط في الأحداث اليومية، وتأثير سياستها بفاعليّتها في الشؤون الإقليمية ووضعها في مصر.
ومع شروع إسرائيل في شنّ عدوان على المدنيين في القطاع، بدا تفاعل "الإخوان" هادئاً ومتباطئاً، مقارنة بالحالات السابقة. فبعد إصدار بيانات التأييد الأولى مع انطلاق شرارة "طوفان الأقصى"، انتظرت حتى 17 و26 أكتوبر لإصدار بيانات لدعوة الجماهير إلى الاحتشاد على مستوى العالم لوقف العدوان وتوجيه اللوم للدول العربية. وكانت الدعوة إلى فتح معبر رفح ضمن حملة موازية لفكّ الحصار وإدخال الإغاثة، ترافق معها الحديث عن الحقوق التاريخية ومكافحة الصهيونية تحت مظلّة الحق في مقاومة الاحتلال.
وفي محاولة لتطوير موقفها، اتجهت تنظيمات الإخوان المسلمين لتكوين إطار للتعبئة الجماهيرية، قامت عليه جمعيات أهلية يديرها علماء قريبون من تيارهم، تنشر بياناتها تحت عناوين "علماء الأمة" وتقديمها صيغة مُحفزة على نشر التأثير بين الجماهير. وخلال تناول مكوّنات جماعة الإخوان وأعضائها في منظمات العلماء مسار العدوان، حَظي انتقاد الحكومة المصرية باهتمام واضح. وكان من اللافت تلاقي البيانات والفتاوى على وضع مصر أمام خياري الحرب أو الاتهام بالتقصير لعدم التدخّل العسكري والعجز عن توصيل المساعدات. وقد تسابقت كلُّ فِرَق الإخوان إلى تبني خطاب التخوين لامتناع الحكومة عن دخول الحرب.
وفقاً لتجارب تاريخية، تسمح الجذور الفكرية لجماعة الإخوان المسلمين بالانتقال السهل بين السِّلم والعنف وحمل السلاح
وعلى هذه الأرضية، انشغل الإعلام القريب من "الإخوان" بالحديث عن مشكلات الدولة وسَير الحرب، ليعكس المحتوى جانباً من التلازم بين العدوان على غزّة وتهيئة المسرح لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء. فقد روّجت قنوات المعارضة ومنصّات التواصل الاجتماعي لتشابه المقترحات المصرية مع الرؤى الأميركية ـ الإسرائيلية. لم يقتصر الموقف على ربط المقترح المصري، 25 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، لوقف إطلاق النار بمقترحاتٍ إسرائيلية، ولكنها نشرت محتوى مقالات وتدوينات أجنبية عن كراهية مصر لحركة حماس بسبب تبعيّتها للإخوان المسلمين، في محاولة لرسم صورة عدائية مع المقاومة الفلسطينية، وإمكانية التقارب مع الحلول الإسرائيلية.
ومع التوصّل إلى الهدنة الأولى، 24 نوفمبر/ تشرين الأول الماضي، تنوّعت تصوّرات التقييم، فبينما رحبت المجموعات الرئيسية، اعتبرت خلايا المكتب العام أنه هكذا يحرّر الأسرى (24 نوفمبر)، ورأتها بقايا الجبهة السلفية مُلهمة لتحرير الأسرى بمحاكاة عمليات المقاومة ضد إسرائيل لفرض واقع لإطلاق سراح المعتقلين وإزالة الحكومة بالقوة. ومع القناعة بمحاكاة العنف، يمثل ظهور الجهاد الفلسطيني بعد عشر سنواتٍ من تتابع إخفاقات "الإخوان" إلهاماً لتغطية حيرة السنوات السابقة تجاه وضع الجماعة في مصر، فكما أنه ضمن الأفكار المُؤَسّسة، فقد كان واحداً من مصادر وعي جيل أزمة الجماعة فترة ما بعد 2013، التي تشكّلت ملامحها في بيانات سابقة لعلماء الإخوان في السعودية في 2013، والكنانة (1) و(2)، وهي في غالبها محاولات مشتركة بين علماء من دول مختلفة، لتأطير موقف الخروج على الحكومة.
يكمن المُشكل التنظيمي في غياب الشخصية المحورية القادرة على ضبط السلوكين، الجماعي والفردي، ليُعوَّض عنها بتمثيل الجماعة بأسماء مغمورة أو حركية غير معروفة
ومع نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، دشّنت مكونات الجماعة المختلفة حملة لدعوة شيخ الأزهر، شاركت فيها منظمات "علمائية" ومنصّات تواصل اجتماعي، لحثّ شيخ الأزهر، أحمد الطيب، على قيادة مسيرة لفك الحصار عن قطاع غزّة. تأسّس موقف الحملة على اعتبار تأثير مؤسّسة الأزهر في السياسة المصرية للتصدّي للمحرقة في غزّة، والحثّ على وجوب الجهاد والتدخل العسكري.
ورغم مناسبة الخطاب الجهادي، لم يكن إقدام منظمات منضوية في شبكات الإخوان المسلمين على تقدير مهمّة الجيش أو توجيه شيخ الأزهر متّسقاً مع اتهامه بالتساهل في الحقوق. كما لا تتّسق مناشدات شيخ الأزهر مع ميراثية نظر الإخوان إليه منافساً على التعبير عن الإسلام. وضمن مشاهداتٍ كثيرة، كانت مُزاحمة "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح" (2011) للأزهر في بعض اختصاصاته مؤشّراً على استقرار الموقف السلبي. ولذلك، تبدو الرغبة في استدعاء شيخ الأزهر أحمد الطيب تعويضاً عن فشل الحشد للضغط على الحكومات، ومن ثم، لا ترقى محاولة تحفيز "الأزهر" إلى مستوى العمل المشترك بقدر ما تضعه أمام واقع لا يناسب صلاحياته.
وعلى الرغم من شيوع خطاب التخوين، انفرد فريق "إخوان سايت"، 7 ديسمبر، بموقف إيجابي من الدولة عندما دعا إلى الإجماع الوطني لمواجهة التهجير القسري والحفاظ على الأمن القومي، ما يمثل تلاقياً واضحاً مع الموقف الرسمي، غير أنه لم تظهر له تعبيرات لاحقة، سواء لتفسيره أو تأكيد استمراره. وبغضّ النظر عن تصنيفه نتوءاً في مواقف الإخوان المسلمين، فإنه، في ظل غموض الفروق التنظيمية، لا يعني تعدّد صور التعبير خلافاً حقيقياً، بل قد يكون نوعاً من تقسيم العمل، حيث تحتمل البنية الفكرية كل التأويلات السلمية والعنفية، بداية من التظاهر والحملات الدعائية، وانتهاءً بالخروج على السلطة؛ فوفقاً لتجارب تاريخية، تسمح الجذور الفكرية بالانتقال السهل بين السِّلم والعنف وحمل السلاح. ويمكن النظر إلى فتاوي قتل المدنيين الإسرائيليين خارج ميدان المعارك امتداداً للالتباس في تكييف حالة الحرب والإخلال بشروط الأمان.
مع تذبذب الرغبة التصالحية مع الدولة والميل المستمرّ إلى الدعاية السياسية، سيكون موقع "الإخوان" بين محاولة الخروج على السلطة والإذعان لها
وفي مثل هذه الظروف، يكمن المُشكل التنظيمي في غياب الشخصية المحورية القادرة على ضبط السلوكين، الجماعي والفردي، ليُعوَّض عنها بتمثيل الجماعة بأسماء مغمورة أو حركية غير معروفة، حتى لدى المهتمين بالشؤون العامة، ما يبعث على فتور الجماهير واهتزاز الثقة في المجموعات القيادية. وتوضح مشاهداتٌ كثيرة مظاهر تآكل النخبة وافتقارها إلى مشروعية الإنجاز.
وبجانب سيولة الإطار التنظيمي، تكشف الحرب عن الفصام السلوكي لدى الإسلاميين. في البداية، لقيت فتوى استحلال دماء المدنيين الإسرائيليين قبولاً واسعاً، وذهب بعضهم إلى تشجيع قتل الأسرى لوقف القصف الجوي، وفي موقفٍ مناقض، شاعت الإشادة برعاية المقاومة المحتجزين الإسرائيليين باعتبارها قواعد إسلامية للحرب. تكشف الحالتان عن سيولة فكرية واضحة وقدرة فائقة على التغرير بالنص الديني وتوظيفه بطريقة فوضوية. وهنا، تبدو سمتان، تتمثل الأولى بعفوية التعامل مع الحدث السياسي، حيث تنتشر ثقافة التبعية القائمة على علاقات الثقة المطلقة والقابلية للاستلاب لروايات الإسرائيليين. وتتمثل الثانية بالمنظور الأيديولوجي للمشكلات المُركبة، فقد انصرف تفكير جمعيات الأحكام وتنزيل التكليف من دون مراعاة لتعقيد الدولة الوطنية وحساسيتها للتدخل الخارجي. كان واضحاً خلوّ الفتاوى من الاستناد إلى قراءات في العلوم الإنسانية، وقصورها عن طرح موازناتٍ تراعي خريطة التهديد والمصالح أمام الحكومات المختلفة.
وعلى أية حال، كشفت الحرب الجارية عن محدودية نتائج النشاط الجماهيري، فقد ظلّت الاستجابة هزيلة بقدرٍ يعكس انحسار وجود الجماعة في مناطق شتى وهامشية وجودها في دول مختلفة، وهو ما يتعلق، جزئياً، بالتفكّك التنظيمي، بحيث يشير سياق الأحداث إلى تعامل جماعة الإخوان ومكوناتها مع الحرب في غزّة على أنها مشكلة ثانوية، فيما الأزمة مع الدولة ممتدّة. ولذلك، استغرقت جهدها في الانخراط في أنشطة مناهضة للسلطة، ليبقى وضعُها ضمن بدائل الصراع، ومع تذبذب الرغبة التصالحية مع الدولة والميل المستمرّ إلى الدعاية السياسية، سيكون موقع "الإخوان" بين محاولة الخروج على السلطة والإذعان لها.