الأمن القومي المصري ... "من أول زَرَعَ"

19 ديسمبر 2023
+ الخط -

من مشاهدة مسرحية  "العيال كبرت"، أحد مقرّرات المشاهد العربي، من المحيط إلى الخليج، خصوصا في الأعياد، يتعثر الأخ الأكبر سلطان (سعيد صالح) في قراءة كلمة في جواب "قفَشه" أخوه الصغير كمال (أحمد زكي) في حقيبة أبيهما. يحاول سلطان، المتأخّر دراسيا، أن يقرأ "تذكرتيْن" من دون جدوى، فيبدأ في ترديد كلمة "زرع"، وحين يسأله أخوه عن سبب ذلك يخبره سلطان أنه يحاول استعادة مقرّر اللغة العربية من أوله حتى يصل إلى هذه الكلمة. تبدأ رحلتنا في مصر مع القراءة من زرع، أول كلمة في كتاب اللغة، وفي كتاب التاريخ. وكما عرف المصريون أن وجودهم يبدأ من الزراعة، عرف ملوكهم وحكّامهم أن أمن بلادهم يبدأ من الشام، هذا ما فهمه ملوك مصر "المؤهّلون" فكانت بلاد الشام وجهة غزواتهم أو تحالفاتهم لتأمين حدود مصر الشرقية. واستمرّ هذا الوعي لدى حكّام مصر في تاريخيها، الوسيط والحديث، حتى نجد الملك الصالح نجم الدين أيوب يوصي ابنه توران شاه أن يحرص على حيازته مدينة الكرك (ضمن حدود بيت المقدس) ضمانا لأمنه وسلامته، فيقول في وصيته: "يا ولدي: إن ألزمك الحلبيون أن تدفع الكرك إلى الناصر، فأعطه الشوبك (مدينة خارج حدود بيت المقدس)، وإن لم يرض فزِده من الساحل حتى يرضى، ولا تُخرج الكرك من يدك. الله الله احفظ وصيتي، فما نعلم ما يكون من هذا العدو المخذول، لعله، والعياذ بالله، أن يتقدّم إلى مصر، فتكون ظهرك الكرك، تحفظ فيه رأسك وحريمك، فمصر ما لها حِصن، ويجتمع عندك العسكر وتتقدّم إليهم تردّهم عن مصر، وإن لم يكن لك ظهر مثل الكرك تفرّقت عنك العساكر. وقد عزمتُ أن أنقل إليها المال والذخائر والحرم وكل شي أخاف عليه، وأجعلها ظهري. والله ما قوي قلبي واشتد ظهري إلا لما حصلت في يدي".
وفي العصر الحديث، ظهر مفهوم الأمن القومي، ليعبّر، وفق هنري كسينجر، عن "التصرّفات التي يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء"، وطاولته، مثل غيره من البديهيات، يد العبث من أنظمةٍ استبداديةٍ دأبت على ربط مفهوم الأمن القومي المصري بوجودها واستمرارها في السلطة، من دون غيرها، ما دفع مفكرين سياسيين إلى العودة إلى المفهوم، القديم الحديث، والتأكيد على المعلوم منه بالضرورة، وكان أبرزهم حامد ربيع في كتابه "الأمن القومي العربي"، وجمال حمدان في موسوعته "شخصية مصر"، وطارق البشري في كتابه "العرب في مواجهة العدوان". ورغم الاختلاف النسبي في بعض التفاصيل، والاتجاهات في تعريف الأمن القومي، إلا أن الارتباط العضوي بين الأمنين القوميين، المصري والشامي، وأهمية كل منهما للآخر، ظلت بديهية جغرافية، لم يتجاوزها "مختصٌ" واحد. فإذا كان الاستشهاد بـ "العلماء" مستهجنا في مصر الآن، باعتبارهم منظّرين منفصلين عن واقع لا يعرفه سوى "من يحكًم"، فإننا نحيل هذه البديهية إلى محمد حسنين هيكل، أحد أبرز "شيفات" المطبخ السياسي للدولة المصرية، كما أنه الكاتب الذي بدأ وعي الرئيس عبد الفتاح السيسي ببلاده ومشكلاتها من كتبه ومقالاته الصحافية، وفق تصريح الرئيس نفسه. ولعل هيكل هو "أكثر" من تكلم عن أهمية سيناء وحدودها الشرقية، بلاد الشام عامة، وفلسطين خاصة، بالنسبة للأمن القومي المصري، واعتبر القضية الفلسطينية قضية مصرية، بحسابات الأمن القومي، قبل وحدة اللغة والدين والتاريخ. وهو ما كتبه هيكل غير مرّة في "ملفات السويس"، و"مصر في مفترق الطرق" وغيرهما، كما بسطه في حلقاته في قناة الجزيرة "تجربة حياة... مع هيكل"، ثم عاد لتكثيفه في حلقاته على "cbc" مع لميس الحديدي عام 2201، في نقاط ثلاث: الأولى أن مصر بلد موصول بما حوله، والثانية أن مصر بلد لا يستطيع الدفاع عن نفسه من داخل حدوده، والثالثة أن مصر بلد لا يستطيع الاستغناء بموارده. ولذلك استهجن الأستاذ مقولة "مصر أولا"، فلا مصر، تاريخيا وجغرافيا وإنسانيا، من دون محيطها العربي والإقليمي.

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان