"الأستاذ" الفلسطيني بإيقاع أميركي
تُغادر المخرجة (والمنتجة) والناشطة الفلسطينية (البريطانية) فرح نابلسي الفيلم الروائي القصير، بعد "الهدية" (2021)، إلى الروائي الطويل، بإخراجها "الأستاذ" (2023)، الذي واكبه بعضُ حماسٍ صنّفه انعطافةً في الفيلم الفلسطيني الذي يذهب بفكرة المقاومة إلى معانٍ أرحب، وإلى التباساتها مع فكرة الثأر والانتقام. وأياً كان مقدار الوجاهة في هذا الثناء على الفيلم الذي يُحاول أن يقترح جديداً في مجرى السينما الفلسطينية التي تعرف، منذ أكثر من عقدين، اجتهاداتٍ متقدّمة على صعيد التعبيرات، الفنّية والجمالية (والحكائية)، في موضوعة صراع البقاء الفلسطيني في مواجهة مشروع المحو الإسرائيلي. وإلى هذا، هو عملٌ يتوفّر على ما ينجذب المشاهد إليه، وعلى متعةٍ بمحكيّة شائقة، موصولةٍ بمشهديّات دلّت على نباهة لدى المخرجة. ومن ذلك الاتّساع في تصوير فضاءات قرى ومدنٍ وجبالٍ ووديانٍ في الضفة الغربية، حيث البساتين والبيوت الموزّعة حواليْها والخضرة الشاسعة، بالتوازي مع وجودٍ ضاغطٍ للمستوطنات، وجدار الفصل. ولكن "الأستاذ" ليس معنيّاً، تماماً، بتشخيص هذا الحال متعدّد التفاصيل المركّبة، وإنما بتعيين فكرة المقاومة انحيازاً للحياة، تحسب الخسارات والمكاسب، وأدرى بالوسائل الممكنة والنتائج المطلوبة، وذلك كله مع توسّل النشاط المدني والحقوقي، وإنْ بالتماس أيِّ قسطٍ من عدالةٍ محتملة من المؤسّسة القضائية الإسرائيلية. ولا يقدّم الفيلم مقولته هذه بتجريديّةٍ متعاليةٍ على القائم والماثل واقعياً، بل يجعلها تشتبك معه، عندما لا يُحرِز الفلسطيني ذلك القسط المشتهى من العدالة الغائبة، ما يجعلُه على غضبه الذي يأخُذُه إلى فكرة الانتقام.
هذه واحدةٌ من "مرسلات" الفيلم الذي بدا الحوار فيه أهم عناصر قوته، ما قد يعود إلى أن "السجالية" خيطٌ جمع مسارات خطوطه الثلاثة: الأول، الأستاذ باسم، مدرّس الإنكليزية في مدرسة البلدة، مع نفسه ومع صديقته التي أصبح يحبّها، الإنكليزية المتطوّعة المتضامنة مع الفلسطينيين، ليزا، ومع ماضيه وهو الذي فقد ابنَه في سجنٍ للاحتلال، ومع راهنه مشاركاً في إخفاء جندي إسرائيلي (أميركي أيضاً) أسرَتْه المقاومة، لتُبادله بأسرى فلسطينيين. الثاني، التلميذ آدم الذي يهدم الاحتلال منزل أسرته، ويقتل مستوطنٌ شقيقَه، الأسير السابق، ورغبته بالانتقام، قبل معرفته بإخفاء أستاذِه ذلك الجندي في منزله. الثالث، بحث الأمن الإسرائيلي عن هذا الجندي الذي نتعرّف على والديْه، وجدالهما (؟)، فالأب ينتابُه (أحيانا) بعض تعاطف مع الفلسطينيين. ومع قلقه على ابنه، "يتفهم"، إلى حدٍّ ما، دوافع آسريه. ولعلّ لقاء هذا الرجل مع الأستاذ باسم من أهم المشاهد التي كثّفت معنىً جوهرياً أراده الفيلم. يُطمئن الأستاذ والد الجندي بأنهم (المقاومون الفلسطينيون) سيُبقون ابنه حيّاً مهما كلّف الأمر، وعندما يسألُه عن السبب، يجيب: لأنهم يعرفون أن شعبك يدرك أن ابنك يساوي الآلاف من ابني...، ولنا أن نستعير هذه العبارة في غضون ما نُعايِنُه منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة قبل 11 شهراً، فالجهد الدولي ينصبّ أساساً على إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، والغضبُ يتفاقمُ إذا ما جاءت الأنباء على مقتل بعضٍ منهم، فيما قلة الاكتراث بالقتل اليومي لعشرات الفلسطينيين ظاهر.
ليس الفيلم مقنعاً إلى حدٍّ كاف، عندما "نفهم" أن التلميذ آدم تمكّن من "تأمين" الجندي المخطوف في منزل الأستاذ، بعد مداهمة قوةٍ عسكرية إسرائيلية كبيرة المنزل. ولم يكن مقنعاً تماماً في مشهد مباغتة الأستاذ تلميذَه في منزل المستوطن القاتل (برّأته المحكمة)، فيقتل الأخير برصاصة، قبل أن يتورّط التلميذ بقتله بسكين... المشهدان مركزيّان في الفيلم، يبدوان حاجةً سينمائية محضة، في "الأكشن" الذي لا بد منه في الأعمال السينمائية التي غالباً ما تتوسّل "إيقاعاً" أميركياً لها. ويبدوان أيضاً ضرورةً لمجرى حكاية الفيلم وانفتاحها على ممكناتٍ أخرى. وبذلك، بدا "الأستاذ" مقنعاً في حاجته المشهديْن، من دون أن يكون مقنعاً في "حدوث" الواقعتين، وقد تجنّب مشاهد أخرى لتفصيل كيف وقعا.
لم يكن فيلم فرح نابلسي (شاركت "ميتافورا للإنتاج الفني" بإنتاجه) بإيقاع أميركي في هذيْن الموضعيْن فقط، بل أيضاً في انتقالاتٍ، حادّةٍ أحياناً، من مشهدٍ إلى آخر، وفي "العلاقة" بين ليزا والأستاذ باسم، والتي بدا تطوّرها متوقّعاً (ربما ليس مقنعاً تماماً) منذ أول المشاهد. وليست نقيصةً أن يُرمى هذا الفيلم الجيّد بهذا، فالأميركان ما زالوا صنّاع السينما الأنجح.