28 أكتوبر 2024
الأزمة الخليجية أيضاً وأيضاً
يستطيع دونالد ترامب أن يُلزم الدول الأربع التي تقاطع قطر وتحاصرها بإيفاد موظفين رفيعين من وزارتي الداخلية والخارجية في كل واحدةٍ من هذه الدول، لمقابلة وفدٍ قطريّ مماثل، في جولات حوار، يحضرها أيضاً فريقان كويتي وأميركي، تنعقد في الكويت أو مسقط أو مراكش (أمثلةً). يبسُط فيها هؤلاء أمام خصمهم القطري ملفاتٍ محدّدة العناوين، محض أمنيةٍ، بشأن اتهاماتٍ واضحةٍ، تشتمل على قرائن وأدلة، على دعم الدوحة جهاتٍ إرهابيةً وتمويلها، كما قالوا وأشهروا، وكما يقولون ويُشهرون. يستطيع ترامب أن "يوجّه" بأن تبدأ خريطةُ طريقٍ لحل الأزمة الخليجية من هذه النقطة بالضبط، وليس من غيرها، وبإشراف مبعوثٍ أميركي يعرف شغله، وبمتابعة مسؤولٍ كويتي. ولمّا سيستعصي على الدول الأربع الإتيانُ بشواهد على ما ادّعوا ويدّعون، يصير ترامب ملزماً بإعلان انتهاء الفيلم المحروق كله، وإنْ لن يكون في وسعه أن يُزيل من أخيلة من يحكمون ويرسمون في هذه العاصمة الخليجية أو تلك أوهامهم عن أوزانهم وأحجامهم. يستطيع الرئيس الأميركي أن يفعل هذا، طالما أنه يُخبرنا، الليلة قبل الماضية، إن البيت الأبيض إذا ما دخل وسيطاً في الأزمة، فإن الاتفاق على إنهائها سيكون سهلاً وميسوراً وسريعاً.
كشفت التصريحات الموجزة للرئيس ترامب، ولضيفه أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد، بعد مباحثاتهما أول من أمس في البيت الأبيض، أن الإرادة الأميركية الجدّية باتجاه إنهاء الأزمة، أو إحداث انفراجةٍ انعطافيةٍ فيها، لم يحن وقتها بعد، لكنها غير مستبعدةٍ في ظرف آخر، وإنْ يتأكّد أن واشنطن حريصةٌ، إلى حد ما، على عدم تجاوز الأزمة سقوفها الراهنة، وعلى أن تبقى الثرثرة على وتيرتها بشأن الحفاظ على كيان مجلس التعاون الخليجي. وجاء أيضا في التصريحات ما أكّد المؤكّد، وهو أن تفكيراً جرى في عواصم دول الحصار بعمليةٍ عسكرية ضد قطر، وإنْ لا يعني هذا أن البوارج الحربية والنّفاثات والجيوش كانت على أهبة التنفيذ، وليست وساطة أمير الكويت الصادقة هي التي جعلت الرؤوس التي اشتهت قعقعة السلاح ترعوي، وإنما سواد وجوه أصحاب هذه الرؤوس إذا ما غامروا بهذه الحماقة، من دون أن تُحدث غرضهم منها، وهو بوضوح شديد: استبدال أمير قطر بغيره. والمؤكّد أن أولئك تداركوا بؤس ما كانوا سيصنعون لمّا تيقنوا أن سذاجتهم سترتدّ عليهم، وتجعلهم مسخرةً للهزء من خفّتهم.
جَهد الشيخ صباح الأحمد كثيرا، في أثناء تصريحاته، ليخفي امتعاضه من سلوك دول الخليج الثلاث التي تحاصر قطر (لم تكن مصر في باله)، ما أكّد الذائع والمشهور، ومنه أن هذه الدول (ومعها مصر) ليست متحمسّةً في الأصل لوساطة الكويت، ولم تستحسنها منذ اليوم الأول، ومن شواهد ظاهرةٍ على هذا أن الدوحة وحدها من ردّت بجوابٍ على رسالة الشيخ صباح إلى الجميع، وشاع أنه اقترح فيها لقاءً بين الرباعي وقطر، ولو على مستوىً متدنٍّ، لتستجدّ اندفاعةٌ طفيفة، تكسر الجمود الحادث في الأزمة منذ افتعالها قبل ثلاثة شهور. وكان هذا المُقترح، لو لم يُقابل بالتجاهل المتّصف بقلة الذوق، سيعين على الأغلب في تهيئة أجواء تيسّر أداء القطريين، والمسلمين المقيمين بين ظهرانيهم، فريضة الحج، على غير ما شهدنا من استعراضيةٍ مارستها الرياض، وردّت عليها الدوحة بما يليق من احترام الذات.
على أي حال، نفترض أن شيئاً ما، لم يفصح عنه أمير الكويت تماماً، جعله يتحدّث عن تفاؤلٍ بحل الأزمة. ونفترض أن شيئاً ما آخر، لم يفصح عنه البيت الأبيض ولا أعلنته الدوحة، جعل وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، يصف مكالمة الرئيس ترامب مع أمير قطر الهاتفية، بعد المباحثات الكويتية الأميركية في البيت الأبيض، بأنها إيجابية. ونفترض أن تعقيب رباعي الحصار والمقاطعة، في بيانٍ رسمي، على مطلب الدوحة رفع إجراءات الحصار ضرورةً للتهيئة لأي حوار مع هذا الرباعي، باعتباره شرطاً مسبقاً مرفوضاً، نفترض أن هذا "الزعل" في التعقيب المذكور ينطوي على قبولٍ مضمرٍ بالحوار، وإنْ في أثناء الحصار. كل هذه الفرضيات المحتملة، كما الإيحاءات البادية في ما قاله ترامب، وكما الذي أبانه الشيخ صباح الأحمد، تعني أن مساراً آخر، بطيئاً ومتعثّراً، قد تشهده جهود تسوية الأزمة الخليجية، قريباً. وربما تسوّغ هذا التوقع الآثار الحادّة لتصعيد "الجزيرة" الملحوظ في فضح مخازٍ حقوقية وسياسية، غير قليلة، جارية في البلدان الأربع، والله أعلم.