الأزمة التونسية في سجال الإسلاميين .. بين المرونة والمواجهة

09 اغسطس 2021

قوات الأمن تواجه مناصرين لحركة النهضة أمام البرلمان في العاصمة تونس (26/7/2021/Getty)

+ الخط -

تكشف الأزمة السياسية في تونس، بعد قرارات الرئيس قيس سعيّد، عن مدى تطور تجارب الحراك السياسي في المنطقة العربية، فقد ظلت تونس تقدّم الحالة الفضلى للتكيف مع تعقيدات المراحل الانتقالية، غير أن التداعيات الراهنة تثير الجدل بشأن قدرة الحركات الإسلامية على تقديم قراءات للمرحلة الماضية وإعادة النظر في مشروعها السياسي، فمن خلال تناول التفاعلات الجماعية والفردية، يمكن الوقوف على الملامح العامة لإدراك مكونات الإسلام السياسي للأحداث والظواهر السياسية.
منذ البداية، ظهرت قرارات 25 يوليو/ تموز 2021، كمواجهة شاملة مع كل الأطراف السياسية، ما أوجد مساحة واسعة من المضارّين، ولذلك لقيت معارضةً مؤقتةً من كتل برلمانية ما لبثت أن تغيرت سريعاً، وصارت أقرب إلى تجنب الصدام مع الرئيس، والبحث عن حل سياسي. وبغض النظر عن الخلاف في تفسير المادة 80 من الدستور التونسي، يهدف قرار تجميد البرلمان إلى تقييد حركة النهضة، فهو المنصّة الوحيدة للنظر منها إلى السلطة، ويمثل رفع الحصانة ضغطاً إضافياً على البرلمان يتضمن توجهاً لتسهيل التحقيقات القضائية، حيث تبدو خطّة تعطيل البرلمان ماضية نحو أهدافها، بسبب تساند كتل مهمة وراء قرار الرئيس، بجانب مرونة تقدير حالة الطوارئ وإطلاق يد السلطة في التصرّف في تحديد إجراءاتها، وتراجع ضمانات توازن السلطات.
وقد سارت انطباعاتٌ بأن نجاح قرارات قيس سعيّد يتوقف على اعتقال رموز الحكومة والشخصيات المهمة في مجلس نواب الشعب، ويذهب إلى أن تأخّر هذه الخطوات سوف يعمل على تغيير المواقف الدولية ويجعلها أقرب إلى الحلول التفاوضية، غير أن مضي الرئيس في خطوات ترتيب الشكل السياسي الانتقالي يكشف عن ملامح تؤدّي إلى تجاوز النظام البرلماني، وعلى الرغم من صعوبات تغيير النظام السياسي، تُراكم الإجراءات اليومية واقعاً مختلفاً، بدت مشاهداته في دخول القضاء العسكري طرفاً في العملية السياسية.

على الرغم من تعطيل السلطة التشريعية، تباعد خطاب "النهضة" مع تعميق النزاع والالتزام بوقف التظاهر أو الاعتصام أمام المؤسسات

لم تستمر حركة النهضة في وصف ما حدث بالانقلاب، واتجهت إلى بناء موقف مرن (26 يوليو/ تموز 2021) يجمع ما بين التشاور واحترام الدستور، بهدف البحث عن الحلول الممكنة للخروج من الأزمة، وتفكيك جبهة الاستهداف الداخلي والخارجي. ويبدو أن رئيس الحركة، راشد الغنوشي، يحاول تجنّب مسار الإخوان المسلمين المصريين، فقد أكد غير مرة على إمكانية تقديم التنازلات الكافية للخروج من الأزمة والحفاظ على الدستور والديمقراطية. وعلى الرغم من نقص الأدوات السياسية وانقطاع التواصل بين مكونات الدولة، توفر هذه التوجهات أرضية ملائمة لمنع وصول التداعيات إلى نقطة حرجة، يكون من بينها الحفاظ على المؤسسات وسد ذرائع الراديكالية. لعل الوجه الآخر يتمثل في أنه، على الرغم من تعطيل السلطة التشريعية، تباعد خطاب "النهضة" مع تعميق النزاع والالتزام بوقف التظاهر أو الاعتصام أمام المؤسسات، وذلك على خلاف تجربة الإخوان في مصر التي سارت على مصارعة الحكومة ثماني سنوات.
وعلى مستوى الحركات الإسلامية، ثارت اتجاهاتٌ متباينة، فقد ظهرت توجهات ترجع الأزمة إلى نقص المؤسسات الدستورية ورفض الرئيس اعتماد القوانين الصادرة من البرلمان، وهي عوامل ترتبط بعدم قدرة "النهضة" على فهم سياقات التناقض بين مكونات السلطة. ولذلك تخلص إلى تبنّي رؤى تفاوضية لحل الأزمة، تقوم على عدم اللجوء إلى العنف، وقد استرشدت هذه الآراء بفشل تجارب العنف ضد الدولة في غياب تصوّر عن السلطة والإصلاح السياسي، وتعتبر أن ظروف خروج الجماهير في 2011 لم تعد متوفرة، بسبب عدم قدرة النخبة على استثمارها في عملية تحوّل سياسي، وظهور العيوب الواضحة للنخبة السياسة وتدهور البنى التنظيمية للمعارضة وإخفاقها في التعبير عن مطالب الجماهير، تُعبّر هذه التوجهات عن محاولة للاستفادة من تقييم أحداث السنوات الماضية، والتي شهدت خسارة صافية للمعارضة.
وعلى جانب آخر، بدت اتجاهاتٌ أكثر راديكالية رأت ضرورة المواجهة والمقاومة أو المفاصلة مع النظم الحاكمة. وبجانب السخرية من الرئيس التونسي، قيس سعيد، دعت إلى اضطلاع البرلمان بعزله وحصار قصر قرطاج، وتكوين جبهة إقليمية للتدخل ضد الإمارات ومصر، باعتبارهما داعمين لتكرار تجربة "30 يونيو" في عام 2013 في مصر. وقد حاولت هذه الآراء تقديم مقاربةٍ تقوم على أهلية الحركة المصرية وكفاءتها، تقوم على افتراض أن بقاء "الإخوان المسلمين" في الحكم يمثل فرصة للتغيير والإصلاح، وأن خطأ الثورات يتمثل في عدم اجتثاث الفساد، لكنها لم تتمكّن من هذا بسبب إزاحتها بعد عام واحد، ومن ثم، فإن خطأ حركة النهضة يتمثل في عدم استثمار عشر سنوات في بناء النظام الخاص بها، وتركها الفرصة للثورة المضادّة لتشويه صورتها أمام الجماهير والاستمرار في مواقعها في الدولة.

تبدو مؤشّرات عدم الثقة في الحلول التفاوضية واضحة في تناول أحداث تونس، عندما ظهرت إشاراتٌ متكرّرة لنصح حركة النهضة بمواجهة الانقلاب

وبينما مالت الأحزاب المغاربية إلى تسوية الأزمة بالحوار، وضع إخوان سورية، (27 يوليو/ تموز 2021) قرارات قيس سعيّد ضمن مؤامرة ومعركة صفرية تغطي العالم الإسلامي، ولا تقتصر على العراق وسورية ولبنان واليمن ومصر وليبيا، تماثل في أهدافها حروب الفرنجة، ولذلك خلصت إلى أن المواجهة تمثل الحل الملائم للدفاع عن الثورة التونسية. يكشف هذا الكلام عن جوانب من السياسات الغربية، غير أن خيار المواجهة غير رشيد لاعتبارات كثيرة، في مقدمتها، ترهل النخب الحركية وفسادها وفشلها الدائم في السلم والعنف. ويمكن فهم هذه التطلعات نوعاً من التذرّع للاستمرار في صدارة المشهد. وبشكل يتماثل مع وضع قيادات "الإخوان المسلمين" في كل البلدان للبقاء في المناصب دورات عدة لإدارة معارك لانهائية من دون انتصار.
يميل الموقف العام لقطاعٍ من حركة الإخوان المسلمين إلى الحلول الصراعية، وباعتبار وصفهم قرارات تونس بالانقلاب، فقد سار التناول نحو استدعاء فكرة المقاومة والاعتصام حلاً نهائياً للتخلص من الثورة المضادّة، وقد بدت مثل هذه التوجهات في اليوم الأول لدى حركة النهضة، لكنها شكّلت قناعة مستمرة لدى بعض الإخوان المصريين، ترجع إلى عدم القدرة على تُلمس اختلاف السياقات بين مصر وتونس، واستمرار الانخراط السياسي من دون تقييمٍ يساعد في الإقلاع عن الاستعلاء على التجارب الأخرى واتهامها بالفشل.
تهيمن قناعات المؤامرة وفقدان القدرة على التفسير على قطاعٍ من الإسلاميين المصريين بطريقة تدفعه إلى تبنّي الحلول الصدامية. وتبدو مؤشّرات عدم الثقة في الحلول التفاوضية واضحة في تناول أحداث تونس، عندما ظهرت إشاراتٌ متكرّرة لنصح حركة النهضة بمواجهة الانقلاب، واعتبار الديمقراطية مناهضة للإسلام، وليست حلاً للمشكلات السياسية، وقد صنفت هذه النوعية من الآراء موقف الغرب بأنه معادٍ لتوجهات حركة الإخوان المسلمين بسبب توجهاتها الدينية الإصلاحية، وذلك باعتبارها الحركة السنية الممتدة في بلدانٍ عديدة.

‫يخلص بعض الآراء إلى أن المشكلات الهيكلية في جماعة الإخوان المسلمين تمثل جذر أزماتها في البلدان العربية

غير أنه من خلال مؤشرات المشاركة السياسية والمحتوى الفكري، يتضح أنها وقعت أسيرة التجربة القومية/ المحلية، ولم تتمكّن من تقديم نموذج ناضج، سواء في وضعها حزبا حاكما أو مشاركا في البرلمان، وظلت مساهمتها ضمن معارضة متراجعة سنوات طويلة. ومن الناحية التنظيمية، لم تعد تمثل تياراً قادراً على التغيير أو طرح مبادراتٍ للخروج من مشكلاتها مع غالبية الحكومات. و‫يخلص بعض الآراء إلى أن المشكلات الهيكلية في جماعة الإخوان المسلمين تمثل جذر أزماتها في البلدان العربية، ويقتضي تاريخها الطويل من الفشل طي صفحتها، فلم تقدّم نموذجاً سياساً ناجحاً، على الرغم من وصولها إلى السلطة في السودان ومصر والعراق، كما أن مشاركتها في عدة تجارب أخرى ظلت متذبذبة ومتواضعة. في الحالة المصرية، لا يتجاوز ما قدّمته شلة من العلاقات القرابية، اتسمت بانخفاض الكفاءة وعدم الإلمام بمقتضيات الدولة.‬
على مدى السنوات الماضيةً، بدت فروع حركة الإخوان المسلمين في تراجع سريع، فمن جهةٍ لم تنجح في تقديم نفسها بديلاً للنظم السياسية، أو تجنّبت برامج التهميش والعزل السياسي، بحيث صارت مرشّحة للأفول والعزلة الاجتماعية في بعض البلدان، وغير قادرة على تعويض خسارتها من الرأسمال الاجتماعي. ومن جهة أخرى، افتقرت لوجود استراتيجية لبناء تحالفٍ على المستوى الإقليمي أو الدولي، وصارت عبئا على داعميها بعد 2013، بعد فشل حركات الإخوان المسلمين في إثبات جدارتها بصدد أزمتها مع الحكومة المصرية. وهنا، بدت محاولة توجيه خطاب لتهنئة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بالغة السذاجة، سواء بافتقادها سياقا ملائما أو السعي المفرط للاعتماد على قوة أجنبية. وفي سياق مماثل، وعلى مدى سنوات "الثورة السورية" تحولت المعارضة إلى مجموعات هشّة، وظهر أن التعويل على دور الإخوان المسلمين صاحبته تقديراتٌ غير واقعية.

على الرغم من اختلاف أداء "النهضة" مقارنة بمثيلاتها، فقد ساهمت قيود الصراع السياسي والتنافس الأيديولوجي في الوصول إلى نظام حكم لا يناسب التغيير المرغوب

وكحالة ممثلة، تقدّم الحالة المصرية وضعاً جامداً لأزمات الإخوان المسلمين، فمن جانب، ينصرف الاهتمام الأساسي نحو الصراعات التنظيمية، وانحسار الاهتمام بحل مشكلات المعتقلين. ومن جانب آخر، يمارس قسم كبير منها المعارضة، متبنّياً موقفاً صارماً للثورة ومكافحة الدولة والخروج عليها. ساهمت هيمنة هذه التصوّرات في انحسار الأجندة السياسية لتقتصر على شؤونها الداخلية الضيقة على مقاس المصالح الشخصية. وتظهر حركة الإخوان شبكات لا تملك مقومات التغيير في بلدانها. وخلال خبرة السنوات السابقة، لم تتمكّن الحركة المصرية في الخارج من تقديم نموذج للتصحيح والتطوير. ويمكن ملاحظة أنه مع اتساع نطاق الحرية ظهرت الجماعة مشكلة اجتماعية وسياسية أكثر منها حلاً إصلاحياً.
وعلى الرغم من اختلاف أداء "النهضة" مقارنة بمثيلاتها، فقد ساهمت قيود الصراع السياسي والتنافس الأيديولوجي في الوصول إلى نظام حكم لا يناسب التغيير المرغوب. وظل يشكل واحداً من ملامح السلطات المتوازية، وهي، على أية حال، قدّمت خبرة في التفاوض، على خلاف انحياز الأحزاب الإسلامية الأخرى للبقاء في مربع الأزمة وتجديد الصراع. وتبدو الخصائص المشتركة في غياب مشروعات التحول السياسي والاقتصادي، ما يجعلها مشكلة دائمة.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .