الأزمة الأوكرانية... ما بعد احتلال كورسك
دخلت الحرب الروسية الأكرانية في السادس من أغسطس/ آب الجاري طوراً جديداً، فتمكّنت القوات الأوكرانية من الدخول إلى إقليم كورسك الحدودي، لتنجح للمرّة الأولى في احتلال أرض روسية. بهذا الاجتياح غير المُتوقّع، استطاعت كييف أن تقلب معادلات الحرب وأن تنتقل من مربع المدافع إلى الهجوم. فكّر الأوكرانيون كثيراً قبل التجرُّؤ على القيام بهذه الخطوة، التي سيكون لها تداعيات قد تغيّر وجه الحرب ومستقبلها، كما يبدو أنّهم لم يقوموا بهذا التصعيد الخطير من دون دعم ومساندة من الحلفاء، وفي مقدمتهم الولايات المتّحدة.
في البداية، كان المتابعون يعتبرون العمليةَ خاطفةٌ، وأنّ الغرض منها كسر هيبة روسيا التي لم تتعرَّض حدودها للغزو منذ أيام الحرب مع ألمانيا النازيّة، لكن مرور الأيام والتجهيزات الكثيرة، التي يظهر أنّ الأوكرانيين أعدُّوها، توحي بأنّ الغرض أكبر من ذلك، بل يذهب بعضٌ إلى القول إنه قد يكون الوصول إلى اتفاق لمقايضة الأراضي الأوكرانية التي ضُمّت إلى روسيا حديثاً، بمدن وقرى كورسك.
رقعة الصراع بين روسيا وأوكرانيا، المدعومة من دول الشمال، تتوسّع فلا تصبح مقتصرةً على حدود البلدين
السؤال الأهم: إلى متى تستطيع أوكرانيا الاحتفاظ بهذه المناطق في ظلّ احتدام المعارك وتواصلها في جبهات بعيدة، وهل تمتلك الموارد والقنوات اللوجستية الكافية لإيصال المؤن والذخائر، بحيث لا يحدُث أيُّ نقص مُؤثّر؟... موسكو أيضاً تجد نفسها أمام تحدٍّ مهمٍّ، فالقوات الروسية كانت تتركّز في مساحات بعيدة واستجلابها قد يُحدِث ثغرةً. من ناحية أخرى، الحلّ السهل والمُجرَّب القائم على التدمير الشامل بواسطة الطيران، الذي اتُّبِع لتفكيك المقاومة الأوكرانية، لا يمكن تفعيله داخل الحدود الروسية في وجود احتمال سقوط أعداد كبيرة من المواطنين.
يُطوّق الروس حالياً القواتِ الأوكرانية ويحاصرونها من جهات مختلفة، ما يُؤدّي إلى قطع خطوط الإمداد عنهم. من المتوقَّع أن يُستعان بقوّات نخبةٍ متمرّسةٍ على حرب المدن في شكل قوات فاغنر أو الفيلق الشيشاني أو غيرهما. ستكون تلك المجموعات شبه العسكرية والمتمرّسة أكثرَ فعّاليةً من الجيش التقليدي في مثل هذا النوع من العمليات. لفهمهم خطورة هذا التطوّر، نأى الحلفاء الأطلسيون بأنفسهم عن الأمر، واكتفوا بالقول إنّ من حقّ أوكرانيا أن تدافع عن أرضها، وأن تدفع المُعتدين بالطرق التي تراها مناسبة، إلّا أنّ ما يؤمن به الروس أنّ أوكرانيا ما كانت لتتَّخذ هذه الخطوة من دون إسناد غربي بالسلاح واللوجستيات. يجعل هذا إمكانية الردّ على هذه الصفعة مفتوحاً على احتمالاتٍ كثيرة قد تتجاوز قواعد اللعبة وخطوطها الحمراء، وهو أمرٌ له حساسية خاصة، إذا ما تذكّرنا امتلاك روسيا القنبلة النووية، والتصريحات السابقة التي لا تستبعد استخدامها إذا ما اقتضى الأمر.
احتفى الإعلام الغربي المُتعاطف مع كييف بهذه العملية، التي رأى فيها إثباتاً لكلام الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الذي ظلّ يردّد أنّ هزيمة الروس ممكنة، وأنّ كلّ ما يتطلّبه الأمر هو مزيد من الدعم. خطوة الأوكرانيين كانت جرئية. مع ذلك، يجب أن نضع في الاعتبار أن استهداف منطقة حدودية بعيدة عن أرض المعارك، وغير متأهبة لعملية غزو جادّة، لا يُدلّل بالضرورة على القدرة في هزيمة الروس، الذين يحتلّون بالفعل 20% من مساحة أوكرانيا. خسائر أوكرانيا الكبيرة، خصوصاً في صعيد المقاتلين من عسكريين ومتطوعين، جعل كثيرين يُحسُّون بالإحباط، ويطالبون بإنهاء الحرب بأيّ وسيلة. كانت القيادة الأوكرانية تسعى إلى تجنيد جميع القادرين على حمل السلاح، لكنّ حالة الإحباط تلك كانت تمثّل عقبة، ما ظهر في انحسار الإقبال على معسكرات التجنيد، وفي سعي شبابٍ كثيرين إلى الهرب بعيداً من مناطق الصراع. لمواجهة هذا النقص في القوة البشرية، لجأ الأوكرانيون إلى تجنيد المسجونين والمحكومين وفق اتفاق يقضي بإسقاط العقوبة عنهم، وهو ما سبقت إليه روسيا، التي كانت تشترط بقاء المحكوم ستّة أشهر في أرض المعركة. ربّما كان زيلينسكي يرجو أن تقدّم العملية حافزاً جديداً وناجحاً في منح المقاتلين وعامّة مواطنيه أملاً في النصر، وأن تمنح شباباً عديدين الحماسة الكافية للتطوّع من أجل التشارك في هذا النصر.
تدعم أوكرانيا في مالي مجموعات مُعارِضة مسلّحة، في حين تستعين الحكومة بـ"فاغنر"، ما ينقل الصراع الروسي الأوكراني إلى جبهة جديدة
رقعة الصراع بين روسيا وأوكرانيا، المدعومة من دول الشمال، تتوسّع، فلا تصبح مقتصرةً على حدود البلدين. دول الشرق الأوروبي (بولندا نموذجاً) تتأهّب وتُجهّز نفسها للدخول في معارك مفاجئة. الوضع خطير لأنّه إذا كان غرض الغربيين من دعمهم أوكرانيا هو استنزاف الروس وإضعافهم، أو خلق هزة داخلية في البلد الذي ينافسهم عسكرياً وسياسياً، فإنّ الروس في المقابل لن يتردّدوا في القيام بأيّ شيء يمكنه أن يضعف المنظومة الغربية. بهذا يمكن لصوت روسيا حول مجموعة من القضايا في منطقتنا أن يكون مغايراً ومعاكساً للصوت الغربي. في رأس هذه القضايا القضية الفلسطينية والموقف من الاحتلال، الذي يجد رعايةً مباشرةً من "أعداء" روسيا. بجانب ذلك يمكن أن نضيف العلاقة مع إيران، البلد الذي يجد سنداً روسياً لا يُستهان به في أصعدة مختلفة.
يتكرّر الأمر في أفريقيا التي شهدت أخيراً اهتماماً من الدبلوماسية الأوكرانية، التي تحاول، من خلال مكانتها أحدَ أهمّ مصدري الحبوب التي يحتاج إليها الأفارقة، أن تقطع الطريق على التمدد الروسي. السودان، الذي تحاول الولايات المتّحدة هندسة الوضع فيه، بما ينتج نظاماً موالياً، ثم معادياً لروسيا، قد يكون ساحة صراع. كذلك الحال مع دول غرب أفريقيا، التي تحرّرت أخيراً من النفوذ الفرنسي/الغربي. يمكننا أن نربط هذا بإعلان كلّ من النيجر ومالي قطعَ العلاقة مع أوكرانيا، المتّهمة بالتورط في الحرب الدائرة في شمال مالي ضدّ الانفصاليين الطوارق. تدعم أوكرانيا المجموعات المُعارِضة المسلّحة، في حين تستعين الحكومة المالية بمجموعة فاغنر الروسية، وهو ما يجعل الأمر أشبه بنقل الصراع الروسي الأوكراني إلى جبهة جديدة.