الأردن .. شرط "العبور السياسي"
أنهت في الأردن اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية أعمالها، بانتظار تسليم النتائج للملك عبدالله الثاني، للبدء بتنفيذ خريطة الطريق للإصلاح السياسي، وإحداث نقلة نوعية في النظام السياسي الأردني، خلال الفترة المقبلة، كما طلب الملك من رئيس اللجنة، سمير الرفاعي، في رسالة التكليف وتشكيل اللجنة.
أخذت المخرجات بمنهجية التدرّج، وصولاً إلى ترسيخ حياة حزبية حقيقية، والوصول، في إطار زمني (10 - 12 عاماً) إلى حكومات حزبية برامجية، تبدأ بالانتخابات المقبلة (المفترضة في 2024) بقائمة حزبية وطنية تصل إلى ثلث أعضاء المجلس، ثم الانتخابات التالية نصف الأعضاء، وبعدها إلى ما يقارب 65 - 70% من الأعضاء، ما يعني العمل منذ اليوم التالي مباشرة لإعلان النتائج على ردّ الاعتبار لتطوير منظومة الأحزاب السياسية في البلاد، لتكون هنالك أحزاب برامجية متنافسة على مقاعد مجلس النواب.
ثمّة آراء متضاربة ومتعارضة حول نتائج أعمال اللجنة، من يرى أنّه لا يجوز فرض الأحزاب على الحياة السياسية، في بنيةٍ اجتماعيةٍ بعيدة عن العمل الحزبي اليوم، ومن يرى، في المقابل، أن الإطار الزمني طويل، والإصلاح لا يحتاج إلى هذه الفترة، إنما إلى قرار سياسي حاسم وفتح الباب للتنافس السياسي.
في كلّ الأحوال، فإنّ الطريق المتدرّج المدروس هو المفتاح الذهبي الذي يجيب على هواجس متضاربة بين القوى السياسية التي تعارض الإصلاح، وتطرح مخاوف كبيرة ضده، والقوى التي تريد الانتقال بالحياة السياسية نحو الديمقراطية، وتقف وراء هذه القوى السياسية قواعد اجتماعية لها مصالح ومخاوف وتساؤلات. وبالتالي، فإنّ التوافق والتفاهم هو شرط لضمان التوازن بين اعتبارات الإصلاح والتطوير من جهة والاستقرار السياسي والمجتمعي من جهةٍ أخرى.
ما منع تطوير الحياة الحزبية والسياسية في الأردن خلال العقود الماضية غياب التفاهم بين القوى السياسية والمجتمعية على خريطة الطريق. لذلك كانت الهواجس الأمنية تتغلّب على الاعتبارات السياسية، بخاصة في دولةٍ تعاني مما يمكن أن يُطلق عليها حالة "طوارئ تاريخية"، في منطقة تموج بالخلافات والأزمات. وفي الوقت نفسه ترتبط (الدولة)، بصورة عضوية، بما يحدث في المنطقة، بخاصة في تطورات القضية الفلسطينية، منذ الاستقلال في 1946، ما كان، وما زال، يجعل من سؤال الديمقراطية ملتبساً بأسئلة الهوية السياسية والمواطنة، ويعطي فرصة للقوى المستفيدة من غياب الإصلاح من التلاعب بالمخاوف، وتضخيمها وتجذير الهواجس المتبادلة. ولطالما تمسّك تيارٌ سياسي، في البلاد، بدعوى أنّه لا مجال لديمقراطية أردنية قبل الحلّ النهائي للقضية الفلسطينية!
إذاً، وعلى الرغم من أنّها ليست البروفة الأولى للإصلاح الديمقراطي، فإنّ هنالك جدّية واضحة، تبدو هذه المرّة في إحداث النقلة المنشودة، بخاصة بعدما تبيّن أن الاستمرار في قواعد اللعبة الراهنة لم يعد ممكناً، وأنّ الأزمات السياسية والمجتمعية والاقتصادية الناجمة عن تحوّلات كبرى في علاقة الدولة بالمجتمع، بخاصة في دور الدولة الاقتصادي، ما أحدث ضرورةً ماسّة تزامنت مع الولوج إلى مئوية الدولة الثانية، بتطوير النظام السياسي وتحديثه، وتوسيع قاعدة مشاركة المواطنين والقوى السياسية في القرار السياسي، والخروج من نفق الهويات الفرعية التي أصبحت واقعاً مقلقاً ومزعجاً.
ترسيم المسار ووضع الخريطة وضمانة الملك بالتزام الحكومة بنتائج اللجنة لا يعني أنّ الأمور ستسير بالاتجاه الصحيح بالضرورة، فالضمانة الكبرى لتحقيق ذلك ستتمثل فيما سيحدث على أرض الواقع منذ اليوم، وفي الإجابة على شروطٍ مهمةٍ وحيوية، أبرزها تمسّك مؤسسات الدولة بالخطة الجديدة والالتزام السياسي الحقيقي بها، وعدم التراجع مرة أخرى إلى الوراء، فالمطلوب أن تكون هنالك أجندة واحدة ورسالة واحدة، أنّ هذا المسار إجباري لتطوير المنظومة السياسية، ولا تراجع عن هذه الوعود.
على الطرف الآخر، الكرة اليوم في ملعب الأحزاب السياسية، والشباب خصوصاً، في أن ترتقي جميعاً إلى مستوى القدرة على الفعل والاستقطاب وبناء القدرات ومخاطبة الشارع بالهموم اليومية، وتقديم البرامج والسياسات البديلة للسياسات الحالية، لا أن تبقى المعادلة محصورةً في ثنائية الدولة والإسلاميين، بل تكون هنالك أحزابٌ لديها القدرة على التنافس والحضور الشعبي، ما يتطلّب بدوره تجسير الفجوة بين الشباب والعمل الحزبي.
ستكون الأعوام الثلاثة المقبلة مهمة ومفصلية في تطوير النظام السياسي، بصورة هادئة متدرجة سلمية، وفي مدى قدرة النخب المعتدلة العقلانية في الدولة، بالتعاون مع النخب الإصلاحية على بناء مسار آمن لانتقالٍ جدّي نحو الديمقراطية.