شظايا... إنسان ومجتمعات ودول
عندما كتب الشاعر والمسرحي والسناريست السوري ممدوح عدوان كتابه النثري "حيونة الإنسان"، جعل تركيزه على خطورة التعذيب والعنف بأنواعه وأشكاله المتنوعة والمتعدّدة، المادية والرمزية، على مفهوم الإنسان نفسه، وما يصنعه به من تحطيم قيمي ونفسي كبير، وهي حالة قد تكون متقدّمةً على ما وصلنا إليه اليوم من معطيات وواقع أكثر خطورة وأشدّ تحطيماً، ليس فقط للجانب النفسي والقيمي، ولا حتى السلوكي، بل حتى الوجودي نفسه؛ إذ تعيش نسبة كبيرة من الشعوب العربية اليوم خارج أيّ إطارٍ للأمن الإنساني بأبسط مقوّماته.
أن تكون في مقهى في مخيم طولكرم يمكن أن يأتيك صاروخ (من مكان ما) ويقضي عليك، لا لأنك مقاومٌ أو مجاهد، بل لأنّك كنت تجلس تشرب الشاي وحولك (ربما) أحد الذين تطاردهم قوات الاحتلال، وربما تفقد حياتك أو كرامتك وأنت تسير في مركبتك على الطريق العام، فتجد مراهقين من المستوطنين العصابيين يوقفونك، ويهينونك، وربما ينتهي الأمر إلى قتلك. والحال كذلك ربما تتعرّضين للاغتصاب في إحدى مدن السودان على يد أحد الفرقاء. والحال في غزة حدّث ولا حرج، فلا وصف يمكن أن يحيط بحجم تلك الكارثة الإنسانية والنفسية والرعب الشديد للناس هناك.
أكثر من مليون نازح لبناني من الجنوب يتكدّسون في الشوارع وفي حياة غير إنسانية في المناطق الأخرى، في دولة هشّة أصلاً ولا رئيس لها، وجيشها غير مؤهل وهو خارج معركة خطيرة تحدُث على أراضيه، والحكومة خارج دائرة القرار، وهنالك للمفارقة أكثر من 185 ألف لاجئ سوري ولبناني هربوا إلى سورية، بعدما كانت هنالك مناوشاتٌ بين لبنانيين والسوريين اللاجئين في لبنان!
أمّا سورية فقصة مرعبة قديمة - جديدة، لا توجد حكومة واحدة، بل حكومات وسلطات ومليشيات كل منها له ارتباطه الإقليمي؛ 13 مليون سوري مهجّر قسراً؛ 7.5 ملايين نازحون، و6.5 ملايين لاجئون، وأكثر من 131 ألف شخص معتقل أو مختف قسرياً (في السجون) في سورية، لدى النظام، منذ مارس/ آذار 2011، ماذا بقي من دولة وشعب وإنسان!
ربما غضب كثيرون من هجمة مشهودة لسوريين كثيرين على حزب الله، وعدم إبداء أي تعاطف مع ما يمرّ به الحزب وأعضاؤه من محنة كبيرة، بما في ذلك مقتل قيادات الصف الأول جميعاً، وهو ثمنٌ باهظ لموقف الحزب مع الفلسطينيين في غزّة. وشخصياً أميّز بصورة حاسمة بين الموقف من حزب الله في دخوله سورية وما قام به من دعم النظام هناك والتنكيل بآلاف السوريين، من جهة، وموقفه ضد إسرائيل من جهةٍ ثانية، لكنني لا أبرّر، إنما أفهم موقف السوريين الذين دفعوا ثمناً كبيراً من حزب الله، لا يقلّ عما دفعه فلسطينيون من إسرائيل، وهذه المفارقة أو المعضلة الأخلاقية- السياسية في عالم العرب اليوم، إذ تتسيّد المشاعر والعواطف وتتحكّم بالعقول والأفكار، فيصبح العقل عاطفة وغريزة من مختلف الأطراف!
بالنسبة لحزب الله، هم قاتلوا "التكفيريين" والمستأجرين والمتآمرين على محور الممانعة، ولا يمكن إنكار (أو تجاوز) العاطفة الطائفية والإرث العدائي التاريخي، وبالنسبة لملايين السوريين، نكّل الحزب بهم وقتلهم وشرّدهم، وإيران هي التي احتلت مدنهم وليست إسرائيل! نحن من لم نكتو بهذا الصراع المرير الكارثي نستطيع أن نحكم بهدوء، لكن من كان جزءاً منه، وفقد أخاً أو منزلاً أو بلداً فلا يمكن أن ينسى بسهولة ذلك.
لنكمل الجولة... في السودان؛ أكثر من عشرة ملايين نازح وأكثر من مليوني لاجئ، وفظائع كبيرة. وفي غزّة، انعدمت شروط الحياة نفسها، مجاعات وتدمير وقتل وأكثر من مائة ألف جريح، عشرات آلاف منهم فقدوا أطرافهم، وأكثر من 40 ألف شهيد، والجميع مشرّد، ولعام كامل نكبة أكبر من النكبات التي شهدها الفلسطينيون سابقاً...
يعيش العالم العربي اليوم أكبر كارثة إنسانية حقيقية من قرون طويلة؛ عشرات الملايين من المهجرين والنازحين واللاجئين، والأطفال المشرّدين والأيتام والجائعين، ماذا تبقّى من دول مستباحة ومجتمعات مستنزفة وبشر تحوّلوا إلى شظايا، من سلم بجسده فإنّه يعاني الأمرّين في حلمه ويقظته... في أيّ تحليل سياسي، من الضروري أن ننطلق من قراءة هذا الواقع الجديد المرعب بوصفه أهم معلم من معالم السياسة العربية اليوم.