الأب فرانز.. الأب باولو
لا معنى لاتفاق وكالة الأَنباء السورية الرسمية، "سانا"، مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، في اعتبار قتل الراهب الهولندي اليسوعي، الأَب فرانز فان درلوغت (75 عاماً)، برصاصتين في رأسه، الاثنين الماضي، جريمةً. ببساطةٍ، لأنَّ أَيّاً منهما لم يشحط الذئب من ذيلِه عندما فسَّر الماءَ بالماء.
ولأنَّ الرجل قُتل في حمص التي يُحاصرها جيش النظام، فإنَّ على السلطة، التي تنتسب إليها وكالة الأنباء الحكومية، أَن تكون سلطةً بحق، فتقوم بوظيفتها البديهية في كشف حقيقةِ الجريمة، وتعيين القاتل، وإِقامة عقوبةٍ مشدّدةٍ عليه.
ولا ينتسبُ طلبٌ مثل هذا إلى غير البلاهة، لأن نظاماً لا يقيم وزناً لقيمة الإنسان وحقه في الحياة، لا يضيّع وقته في جهدٍ مثل هذا، وهو الذي وعد، مرّة، بالتحقيق في اعتداءٍ بلطجيٍّ على علي فرزات، وقبل ذلك، زعم أَن تحقيقاً يجريه بشأن اغتيال عماد مغنية، ثم لا حسَّ ولا خبر بشأن تينك الواقعتين، (وغيرهما).
ولا نظنُّ أَن النظام المذكور كان مغتبطاً بوجود الراهب فرانز بين أَهل حمص المحاصرين، ووسط خرائب مدينتهم التي أَنهكها القصف المدمّر في جولات رعبٍ وتمويتٍ لم يتوقف النظام عن ارتكابها. ولا نظنُّه كان مرتاحاً لانتساب الراهب الهولندي إِلى آلام السوريين، على ما قال الرجل قبل أَسابيع، لمّا أعلن عدم الرحيل عن حمص، وهو الذي يقيم في سوريا منذ 1966، وكان ينقل إِلى العالم بعض ما يتعرّض له المدنيون العُزَّل من جرائم التجويع والخنق والقصف.
كان الأب فرانز نبيلاً في تبتّله بين السوريين، وفي صلاته من أجلهم، وفي قوله إِن السياسيين في المجتمع الدولي يتحدثون، في الفنادق والمطاعم، عن مظالم الشعب السوري، فيما يكابد هذا الشعب أَهوالاً بعيدة جداً عنهم.
ستذهب جريمة قتل هذا الناسك البهيّ إِلى أرشيفٍ منسي، فلن يُحاسَب مَن ارتكبها، كما لم يُحاسب مَن اقترف جرائم بلا عدٍّ ولا حساب في سورية التي تُغتال يومياً، شعباً وكياناً وعمراناً. وإذ يسهل تحميل النظام، غاصب السلطة في دمشق، الحصّة الأثقل من المسؤولية عن هذا كله، فإنَّ مقادير غير هيّنةٍ من المسؤولية عن هذا الحطام تقع على مجموعاتٍ مسلحةٍ متطرّفة، تقترف إِرهاباً أَعمى وأسود، وتعمل على فرض نموذج اجتماعي متخلّفٍ على سوريين في غير بلدة ومطرح.
ليس مستبعداً أن يكون أحد منتسبي هذه المجموعات غيّب الأب فرانز، الهولندي البديع الذي يُذكّرنا انتماؤه إلى السوريين باليسوعي الإيطالي، الأب باولو دالوليو (78 عاماً)، حماه الله وأَبقاه، وقد اختطفته جماعة "داعش"، قبل نحو عام، في الرقّة على الأرجح، لما قدم إِليها ليساهم في إيقاف عمليات خطفٍ متبادلةٍ بين عربٍ وأكراد، فاحتجزته عصابةٌ من أَصحاب الرايات السوداء إِياها، والتي تسلّحهم أجهزةٌ خارجيةٌ لا تريد خيراً لسورية وناسها. أَتذكّر باولو يقول لي في القاهرة إنَّ طول الصراع العسكري في سورية يزيد التعصّب والتطرّف الأصولي. أَسَرَتني شمائله وبهرني سخاؤه في محبّة السوريين، وفي نصرته ثورتهم، لمّا كنّا معاً في ملتقىً سوري فكري معارض. أَبعده النظام عن سوريا، التي أَقام فيها متنسّكاً ثلاثة عقود، ثم دخلها، غير مرّة، لمساندة الثوار في كفاحِهم من أجل التخلّص من "الاستبداد المديد" ومن "نظام الأسد الساقط منذ ولادته"، بتعبيره...
لتكن جريمة اغتيال الأب فرانز مناسبةً متجددةً لإطلاق حملةٍ عالميةٍ من أجل إنقاذ الأب باولو من قبضة العصابة التي تحتجزه، والتي ليس ما هو أَبهج لنظام دمشق من أن تزيد أمثالها، وأن تتناسل عصاباتٌ وعصابات، لتقتل وتخطف، ولتؤجّج السعار الطائفي المقيت.
ولأن الأمر كذلك، نحسب شبيحة الأسد فرحين، الآن، بقتل الأب فرانز، للتأشير على إرهابٍ لا يرون غيره، وكذلك بخطف الأَب باولو، عقوبةً له على "ثقته" بانتصار ثورة السوريين، على ما كان يقول. وهي ثقةٌ مخيفةٌ لأولئك الشبيحة والنظام الذي يحتويهم.