ابن الحظ باضت له فوق وتد
هل لأولاد الحظوظ دعم هناك وراء ظهورهم، دعم خفي، أو بركةٌ ما، أو كنزٌ ما، كنزٌ لهم وحدهم، حتى وإن كثر أمثالهم في لحظاتهم نفسها، وقد أفنوا أعمارهم في المعامل والملاحظة والتأمل ومراجعة الكتب ونصب فخاخهم للصيد من طلعتها إلى المغيب.
دعمٌ من ربّات الفن خاص بهم وحدهم، أم هي أفراح تلك الحياة وملاهيها وألاعيبها وحظوظها العشوائية، كي نجعل للدنيا تلك الزاوية التي اسمُها النصيب أو الحظ، ونتذكّر التعساء بمرارة ونتمسّح حتى بأسماء من ابتسم لهم الحظ وقد صاروا أهلّة ونجوما.
وهذا عن الحظ، فما هي حالة الحمامة حينما ترغبُ في أن تبيض للمحظوظ فوق وتدٍ أو حتى فوق مسمار حدّادي أو حتى ما بين أعواد الغاب رغم صعوبة نومة الحمامة فوق عيدان الغاب والأشواك، فمن أمر الحمامة أن تُعاند في رقدتها المتعبة جدّا حتى يفقس الفرخ وتُطعمه وسط عيدان الغاب والأشواك، وكأنها مكلفةٌ من السماء بأعجوبةٍ ما للكون، كي يأكل الفرخُ ويصير حمامة تطير، ثم تقوم بالعمل نفسه بعد شهور من دون تدريب، أو معرفة، أو علم أو مسك العصا من أم، أو أب، أو مدرّس، أو شيخ في كتّاب، أو بجوار عمود في الأزهر أو جامع الزيتونة أو السوربون.
فكيف تلمّ الحمامة طول ليل الشتاء بيضتها تحت صدرها وهي محشورةٌ ما بين عيدان الغاب، وتحاول بكل حيلها إطعام فرخها وهو متعبٌ وشابكٌ بأعواد الغاب، وتلك معجزةٌ، فكيف تبيض حمامة فوق رأس وتد؟ وهل تلك مبالغاتُ رواةٍ وقد صارت أثراً، أم رؤى، أم مشاهداتٌ غامضة ووقائع، أم متروكات حكاياتٍ اندثرت، وذلك كله، على أي حال، جعلني أعتقد في خفّة الغموض، فأراه حقيقة أو ما يشبه الحقيقة.
زغبُ الحمام خفيفٌ، والأحلام خفيفةٌ هي الأخرى، والمعجزاتٌ أيضا من فوق جبل، فمن ذلك الذي يضفر بيكاسو وأينشتاين في جديلة واحدة من دون أن يجور على براهين العلم، ومن دون أن يكسر خاطر الفن وجنونه، إلا أن حظ عزرا باوند ما زال متعثّرا هناك في أميركا في بداية القرن العشرين، وانطلق بيكاسو بلوحاته وأينشتاين في معادلته وتعثر عزرا باوند هناك، أوروبا تعطى خيوط الحظ في بداية القرن العشرين لبيكاسو وأينشتاين، ويتعثر الحظ وخيوطه في يد عزرا باوند، فيترك أميركا إلى أوروبا مخاطباً بوّابات الحظ في القارّة العجوز.
من المنصف أيضاً أن نضمّ إلى هؤلاء هنري ميلر (1891 – 1980)، وبذلك فقد اكتمل مربّع القرن العشرين عن جدارة، هنري ميلر كسارد وابن الحياة عن جدارة وسيّد حياته الشخصية وقد امتزجت في كل كتاباته والشاعر عزرا باوند "بعدما رفضت حمامته أن تبيض لا فوق وتد ولا حتى في عشّها"، بل في إيطاليا، وتمّت محاكمته، وقضى سنواته في المستشفى النفسي، قبل أن يطلق سراحه ويعود ثانية إلى إيطاليا، كي يقضي بقية سنواته هناك بعيدا عن أميركا.
كانت زيارات هنري ميلر لأوروبا متقطعة وقليلة، ولم تخنه حظوظُه، وباضت له حماماته في أعشاش الحسان وأفرخت من قلب أناييس نن، حتى اليابانيات الحسان في آخر عشرين سنة من عمره.
تبقى حظّ أينشتاين وبيكاسو، وقد باضت لهما الحمامات وأفرخن حبا وذهبا، هل لأن أينشتاين وبيكاسو، وكما يقال "لم يفرّقا بين الحياتين الشخصية والعلمية"، وذلك ما عاشه أيضا هنري ميلر في حياته وكتاباته بلا حرج، فتطابق ثلاثتهم في العمر المديد، وفي أن تبيض لهم حماماتهم فوق الأوتاد، وتوقف الحظ تماما أمام عزرا باوند.
قرنٌ عجيب هو القرن العشرون، حينما نتأمل الأربعة نرى تلك البدايات العمرية المتقاربة جداً من ناحية الميلاد، ميلر (1891 – 1980)، عزرا باوند (1889 – 1972)، بيكاسو (1881 – 1973)، أينشتاين (1891 – 1955).
نجوم تلوح للكوكب في أول القرن العشرين كي يقول الأربعة كلمتهم، أحبّ ميلر وبيكاسو وأينشتاين الحياة، وباضت لهم حماماتهم فوق الأوتاد، ونهلوا من السعادة طولاً وعرضاً، وتربّصت المحاكمات والمستشفيات النفسية بقرين "قرنهم" عزرا باوند، فلم تبض له حمامة، حتى عاد إلى القارّة العجوز في آخر 14 سنة له في عمره، وظلّ الثلاثة في سعادة وراء حماماتهم التي تبيض لهم ذهباً وحبّاً، وعلى وجه الخصوص بيكاسو، فما أعجب قسمة الحظوظ.