إنسانُ اليوم - آلةُ الغد

17 نوفمبر 2024
+ الخط -

هل يُصبح إنسانُ اليوم آلةَ الغد؟... ذاك هو السؤالُ الحاضرُ الغائب الذي قام عليه كتاب "كيف يشكّل الذكاءُ الاصطناعيّ مستقبلنا؟"، للإسبانيّ بيدرو أوريا ريسيو، الذي التقيتُه في الشارقة بمناسبة المعرض الدولي للكتاب (2024). صدرَ الكتاب بالإنكليزيّة، ولم تسمح لنا كثافة البرنامج الثقافي للمعرض بالإسهاب في الحديث عنه، إلّا أنّ الكاتب أتاح لي مشكوراً نسخةً بالفرنسيّة، التهمتُها بشغف، من دون أن أحسّ بمرور الوقت، على امتداد الساعات الخمس التي استغرقتها رحلة العودة إلى تونس.

يوقظك الكتاب ويدوّخك في آن. يمنحك فكرة شاملة عن جذور الذكاء الاصطناعي وعن آفاق تطوّره. لكنّه ينبّهك إلى المخاطر المُحدقة بكيفيّة عمله بالفعل، وكيف يؤثّر على التعليم والإدارة راهناً وعلى المدى الطويل، وكيف يوشك على إعادة تشكيل المجتمع والاقتصاد والسياسة والثقافة، متدخّلاً في صراع الأقطاب، وفي سباق التسلّح، وفي الاستيلاء على أزرار الحرب.

يعود هذا الكتاب بتاريخ الذكاء الاصطناعي إلى رغبة البشريّة منذ آلاف السنين في إيجاد كائنات صناعيّة حفلت بها الخرافات والأساطير، قبل أن يعتني بها مؤلّفو الخيال العلمي، مثل إسحاق أسيموف وستانلي كوبريك. يتدرّج بنا من اللبنات الأولى أيّامَ منطق أرسطو، حتى الولادة الرسمية للذكاء الاصطناعي في ورشة دارتموث عام 1956. يناقش النصّ مراحل الازدهار وفترات التراجع، ويسلّط الضوء على النهضة الحالية القائمة على الشبكات العصبية والذكاء الاصطناعي التوليدي، ثمّ يركّز على تطوّر الروبوتات إلى الطفرة الحديثة مع ظهور الأذرع الروبوتيّة، والروبوتات المتنقّلة المستقلة، والروبوتات شبه البشرية.

مرحلة بعد أخرى، نرى تأثير الثقافة على كيفية تبنِّي الإنسان الذكاءَ الاصطناعي، وتأثير هذا الذكاء على رؤيتنا إلى الثقافة. شيئاً فشيئاً، نتابع محاولات إنشاء روابط عاطفية بين الروبوتات والبشر، وكيف تتّجه البشرية نحو ارتباطٍ أعمق مع الذكاء الاصطناعي، ما يتيح المجال لتحوّلات تؤدّي إلى تغييراتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ عميقة، وتثير تساؤلاتٍ أخلاقيةً بشأن التفاوتات المحتملة ومخاطر استغلال هذا التفوّق التكنولوجيّ الجديد.

يطلّ بنا الكتاب في فصل يحمل عنوان "الكيان الجديد" على تجليات البحث العلميّ والمُنجز التقني، في طريق تغيير هويّة البشر، ونقل الوعي إلى بيئة "متعالقة" مع الذكاء الفائق، ما يكاد يفتح المجال أمام نوع من "الخلود الرقمي". يذكّرنا الكتاب بمحاربين "ميكانيكيّين" في نصوص قديمة، بعضُها من بلاد ما بين الرافدين، وبكائناتٍ هندوسية وبوذية، وغيرها، يمكن اعتبارها "أسلافاً" للذكاء الاصطناعيّ الراهن. من دون أن يغفل عن "ميندار" الذي ظهر في اليابان عام 2019، وهو "روبوت كاهن"، يقدّم المواعظ والمراسم في معبد كودايجي في كيوتو. ظواهر دالّة على مرحلة محفوفة بالمحاذير، قد تنحرف بالذكاء الاصطناعي إلى نوعٍ من "الديانة الجديدة"، وإلى أداة للهيمنة على العالم.

يمكّننا هذا الكتاب من إلقاء نظرة شاملة على موضوعه، من دون تعقيد، ومن دون تهرّب من مواجهة الأسئلة المزعجة. يأخذُنا في جولة متنوعة تتوغّل بنا في شبكة مترامية الأطراف من حقول التاريخ البشري وإبداعه العلمي والفكري والأدبي والفنّي، إضافة إلى اقتصاده ومجتمعه وسياسته. لا وجود لمجال واحدٍ خالٍ اليوم من حضور الذكاء الاصطناعي. وإنّك لتغفل عن نفسك في منعطف هذا الفصل أو ذاك، فيطلع عليك الكاتبُ بفكرةٍ أو استعارةٍ تقول لك إنّنا لسنا في سياق الخيال العلمي، بل نحن في حاضرنا وهو يكمن في الماضي بقدر ما ينبع من المستقبل. وإنّ كلّ شيء مهدّد بالتحوّل. حتى الأساطير. حتى الحمض النوويّ. وحين يعرض الكاتب إلى ملحمة جلجامش في سياق حديثه عن "الكائن الجديد" الذي سيكون مزيجاً من التكنولوجيا والبيولوجيا، فهو يقودك إلى أن تسأل معه: هل تتغيّر فكرتنا عن الموت وهل نستمرّ في البحث عن عشبة الخلود؟

كتابٌ جدير بأن يُعرّب، وأن يُناقَش، وأن يلتحق بعتبات مساءلتنا هذا الموضوع الفارق: هل يجوز لنا حقّاً أن نطلق على هذه الظاهرة الخوارزميّة اسم الذكاء؟ ما تأثير هذا الانفجار الخوارزميّ على الإبداع الشعري، والسردي، والترجمي، إلخ؟ هل يقود الذكاءُ الاصطناعيّ البشريّةَ إلى حدائق اليوتوبيا أم يلقي بها في حرائق الديستوبيا؟ هل يُفضي تفوّقُ الذكاء الآليّ إلى تعايش الإنسان والآلة داخل "السيبرغ"، ذلك الكائن الذي تجتمع فيه الأعضاء البيولوجيّة والتكنولوجيّة؟ وإذا كان من الجائز أن يصبح الإنسانُ آلة الغد، هل ثمّة مجال لمعايير "إيثيقيّة" إذا تفوّقت الآلةُ على الإنسان؟

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.